السلايدر الرئيسيتحقيقات
“” تفتح ملفّ الاستفزازات التركيّة في جزيرة قبرص: الغاز الطبيعيّ… وأوراق أناستاثيادس الرابحة (2 ـ 2)
جمال دملج
ـ بيروت ـ من جمال دملج ـ استكمالًا لما كانت “” قد بدأته في سياق الحديث عن العوامل التأجيجيّة الخارجيّة التي وضعَت جزيرة قبرص في مواجهة مخاطر العواصف الإقليميّة والدوليّة الشديدة، لا بدّ من الإشارة هنا إلى أنّ الكثير من الكلام قيل في عقد السبعينيّات وما بعدَه عن دورٍ رئيسيٍّ لعبته الولايات المتّحدة الأميركيّة في التخطيط لكلّ ما حدث وقتذاك، وفقًا للخطّة التي وضعها وزير خارجيّتها هنري كيسنجر بخصوص تقسيم منطقة الشرق الأوسط، ولدرجةِ أنّ بعض الوثائق ذهب إلى حدِّ التأكيد على أنّ جنرالات كلٍّ من أثينا وأنقرة، اتّفقوا مسبَّقًا، وبتغطيةٍ أميركيّةٍ، على طبيعة الغزو التركيّ وحجمه ومساحة الأراضي التي شكَّلت مسرحًا له، الأمر الذي ما لبث أن أصبح يقينًا بكلّ ما في الكلمة من معنى بعد مرور نحو ربعِ قرنٍ من الزمان، وذلك عندما جاء الموفد الرئاسيّ الأميركيّ ريتشارد هولبروك إلى الجزيرة لكي يحاول إصلاح ما أفسده الدهر، حيث اعترَف في مؤتمرٍ صحافيٍّ عقده داخل مقرّ الأمم المتّحدة عند “الخطّ الأخضر” في نيقوسيا عام 1997 بالأخطاء التي ارتكبَتها بلاده في الجزيرة، قائلًا ما حرفيّته: “إنّ السياسة الأميركيّة لم تكن نظيفةً في هذا الجزء من العالم، نظرًا لأنّ الإدارات المتعاقبة على البيت الأبيض خلال السبعينيّات والثمانينيّات قامت بأعمالٍ ما كان ينبغي عليها القيام بها”… وهذا كلامٌ لم يحدُث أن أتى على لسانِ أيِّ مسؤولٍ أميركيٍّ من قبل.
الحلم العثمانيّ
على هذا الأساس، وانطلاقًا من ركائز المبدأ القائل بأنّ دراسة الماضي الغابر تُعتبَر دائمًا أفضل طريقةٍ في الحاضر لاستقراء ملامح المستقبل القادم، فإنّ أهمّيّة الغوص مجدَّدًا في كافّة التفاصيل المتعلِّقة بجذور المسألة القبرصيّة لا تكمُن بالضرورة في سياق مجرَّدِ رغبةٍ تستهدف استحضار تجارب الماضي إلى الحاضر بقدْر ما تستهدف أخذ العِبَر منها، ولا سيّما إذا أخذنا في الاعتبار أنّ القبارصة اليونانيّين ليسوا بعيدين في الوقت الراهن عن أجواء ما يُشاع في المحافل الدوليّة بخصوص الحلم الذي يراود الرئيس التركيّ رجب طيّب أردوغان في مجال استعادة أمجاد السلطنة العثمانيّة السابقة، علاوةً على أنّهم يدركون أيضًا أنّ بلادهم، وإنْ بقيَت بمنأى عن النزاعات العسكريّة الخطيرة منذ تقسيمها عام 1974 ولغاية اليوم، ولكنّ موقعها الجغرافيّ الذي لا يبعد أكثر من مئةِ كيلومترٍ عن سواحل منطقة الشرق الأوسط الحافلة بالصراعات والاضطرابات والحروب يمكن أن يعرّضها لمخاطر الاحتراق في أيِّ وقتٍ من الأوقات.
مكامن الغاز الطبيعيّ
من هنا، وبالعودة إلى النشيد العسكريّ العثمانيّ الذي ردّ به قبطان السفينة التركيّة “برباروس خير الدين باشا” على تحذيرات البحريّة القبرصيّة بشأن وجوب عدم الاقتراب أكثر من المياه الإقليميّة للجزيرة المقسَّمة قبل قرابة العامين من الزمان، فإنّ العِبرة في هذا الحادث لا بدّ من أن تؤخَذ من طبيعة المهمّة التي كان البحّارة الأتراك يقومون بها، وخصوصًا لدى معرفة أنّ هدفهم تمثَّل أصلًا في السعي إلى إجراء عمليّةِ مسحٍ لأيِّ حقولٍ نفطيّةٍ أو غازيّةٍ يمكن اكتشافها في المنطقة، وذلك بعدما كانت نتيجة المسح الجيولوجيّ الذي أجرته السفينة الأميركيّة “نوتيلس” للمناطق الواقعة شرق البحر الأبيض المتوسِّط قبيل بدء عصْف “ربيع العرب” عام 2011 قد أثبَتت عدم وجود أيِّ قطرةِ غازٍ أو نفطٍ واحدةٍ داخل المياه الإقليميّة التركيّة، وفقًا لما أفاد به “مركز فيريل للدراسات” في شهر أيّار (مايو) عام 2017، الأمر الذي من شأنه أن يشي في نهاية المطاف بأنّ ثمّة رغبةً تركيّةً جامحةً تستهدف الحصول على أيّ نصيبٍ من مصادر الطاقة الوفيرة في جوارها الإقليميّ، حتّى لو تمّ ذلك خارج نطاق مناطقها السياديّة، سواءٌ في جزيرة قبرص أم في غيرها من الدول المجاورة، بما فيها سوريا، وحتّى لو اضطرّها الأمر إلى استخدام نفس السيناريو الإسرائيليّ المستخدَم حاليًّا من خلال التعدّي المتواصِل على المناطق السياديّة اللبنانيّة، وخصوصًا في ظلّ عدم التوصُّل لغاية اليوم إلى اتّفاقيّةٍ واضحةِ المعالم بشأن ترسيم الحدود.
أوراق أناستاثيادس الرابحة
بناءً على ما تقدَّم، وبالنظر إلى أنّ مصادر الطاقة، وعلى رأسها الغاز الطبيعيّ، أصبحت اليوم بمثابة العنوان العريض لكافّة الصراعات والنزاعات والحروب التي يشهدها العالم من أقصاه إلى أقصاه، فإنّ خلاصة القول هنا لا بدَّ من أن تتمثَّل في ضرورة التنويه بأنّ هذا الذهب الأزرق هو المادّة الأكثر عرضةً للاشتعال وللانفجار قياسًا بسواه من مصادر الطاقة الأخرى، الأمر الذي يدفع على الاعتقاد بأنّ ثمّة جهاتٍ إقليميّةً ودوليّةً تبحث في الوقت الحاليّ عن عودِ كبريتٍ جديدٍ في جزيرة قبرص، بما من شأنه إعادة مصطلح “القبرصة” إلى الواجهة وفقًا لما كان عليه الحال في سبعينيّات القرن الماضي، ولا سيّما أنّ اليوم الشرق أوسطيّ الحاليّ أشبه ما يكون بالبارحة القبرصيّ، وإنّما مع فارقٍ وحيدٍ يتمثَّل في أنّ خرائطَ التقسيم الموضوعةَ للمنطقة أصبحت قابلةً للتنفيذ أكثر من أيِّ وقتٍ مضى، وعلى أيدي مقاولين أجشع من أيِّ وقتٍ مضى، علمًا أنّ ذلك لا يعني بالضرورة أنّ الاستفزازات التركيّة المتواصِلة في الحالة القبرصيّة ستؤهِّل الرئيس رجب طيّب أردوغان لكي يكون قادرًا على تحقيق أحلامه في الجزيرة، وخصوصًا إذا أخذنا في الاعتبار أنّ الرئيس القبرصيّ نيكوس أناستاثيادس يملك ما يكفي من الأوراق الرابحة لكي يواصِل بدوره الدعوة إلى ضبط النفس والتحلّي بالصبر وعدم القلق من التطوُّرات الراهنة، وأهمُّها متانة الشراكة القبرصيّة – المصريّة – اليونانيّة في مجال التعاوُن حول مصادر الطاقة في حوض البحر الأبيض المتوسِّط، فضلًا عن أنّ نسبة الثمانية والثلاثين في المئة من مساحة الجزيرة التي قام الجيش التركيّ بغزوها عام 1974، ظلَّت تُعتبَر في نظر المجتمع الدوليّ أرضًا محتلَّةً، ناهيك عن أنّ أيَّ عاصمةٍ في العالم لم تعترف بـ “جمهوريّة شمال قبرص التركيّة” التي أعلن الزعيم القبرصيّ التركيّ الراحل رؤوف دنكتاش عن تأسيسها عام 1983، باستثناء أنقرة بالطبع، الأمر الذي يعني في إطار ما يعنيه أنّ الرئيس أردوغان لا يملك أيَّ مسوِّغٍ قانونيٍّ يخوِّله المطالبة بالسيطرة على أيِّ حقولٍ نفطيّةٍ أو غازيّةٍ مهما بلغَت مسافة قربها من الجمهوريّة الشماليّة أو بعدها عنها، خلافًا لما هو الحال عليه في نسبة الاثنين والستّين في المئة من مساحة الجزيرة التي يعترف بها المجتمع الدوليّ منذ الاستقلال عن بريطانيا عام 1960، أيْ قبل التقسيم وبعده، باعتبارها المساحة الشرعيّة المنضوية في الأسرة الدوليّة، ومن ثمَّ في الاتّحاد الأوروبيّ تحت اسم: الجمهوريّة القبرصيّة… وحسبي أنّ البيت في القصيد يكمُن هنا… والخير دائمًا من وراء القصد.