أنا من جيل الحرب. وُلدتُ قبل اندلاعها في لبنان بسنة ونيّف، وعايشت أغلب سِنيها وأصعبها. أنا مِن الذين تركت الحربُ في نفوسهم جروحًا لا تُبلسمها إلاّ يدُ الله الطريّة. ذكرياتٌ جمّة لا تزال عالقة في ذهني، مشاهد وأصوات، صُوَرٌ وأنّات…
صقلتني الحرب وصنعتني يداها من غير أن أدري. لم أَدرِ يومَها أنّ تلك الشمعة، التي غالبًا ما كنت أُذاكر على ضوئها الشحيح، قد أنارت نفسي لأقدّر العِلم أيّما تقدير. ولم أَعِ حينَها أنّ نقطةَ الماء، التي كنّا ننتظر أن تتقاطر انتظارَ الحرّاس للفجر، قد غسلت عينيَّ وفتّحتهما على قيمة الأشياء التي تتأمّن لنا اليوم من غير جهد. ولم أُدرك وقتَها أنّ مجرّد استيقاظنا كلّ يوم من غير أن يُصيبنا مكروه أو من دون أن يُقرأ خبر مقتلنا في جرائد اليوم التالي، من جرّاء قذيفة أو شظيّة طائشة، قد علّمني أن أشكر الله دائمًا على نعمة الحياة. أمّا رغيف الخبز الذي كنّا نحصل عليه بعد طول انتظار في الطوابير، فلم أكن أعلم أنّه درَّبَ لساني على أن يستلذّ شاكرًا بما يُقدَّم إليه من طعام.
لم يرطّب ليالي الحرب الثقيلة، تلك التي كنّا نقضيها في الملجأ العفِن، إلاّ استماعي إلى مسرحيّات الرحابنة التي كانت الإذاعات تبثّها بعد منتصف الليل. خارجًا كانوا يجرّحون وطني ويعيثون فيه خرابًا، وفي الملجأ كنت أَبني وطنًا لي في مخيّلتي على قدر أحلامي، وأنا أستمع إلى مسرحيّات “آخر إيّام فخر الدين” و”جبال الصوّان”، و”بترا”… من خيوط هذه المسرحيّات الوطنيّة الخالدة نسجتُ وَطنًا من عزّة وكرامة، أنا الشابّ الذي لم يكن قد بلغَ بعدُ سنّ الرشد. لبنان الذي أعشقُه حتّى نخر العظم، هو لبنان تلك الكلمات الرحبانيّة والألحان الفيروزيّة… الحرب، مع نارها، أَجَّجت فيّ حبّ الوطن.
ما إن وضعت الحرب أوزارها وسكتَ المدفع، أسرعتُ أنا ورَفيقيَّ إلى بيروت نزورها ونتسكّع في شوارعها المدمّرة، نُشبع أعينَنا من مشاهدة تلك المدينة الفاتنة، ولو مصلوبةً مهشَّمَة، التي كنّا قد عشقناها من غير أن نراها. أَنشدنا يومها مع فيروز: “لبيروت، من قلبي سلامٌ لبيروت، وقُبَلٌ للبحر والبيوت، لصخرةٍ كأنّها وجهُ بحّار قديم”. إن أنسَ فلن أنسى أبدًا تلك الليلة المجيدة في ساحة البرج وسط المدينة، حين أحيت فيروز حفلتها الأولى في لبنان بعد الحرب. تخيّلوا معي مقدار الشوق الذي كان يجتاحنا، أنا ورفيقيّ، لرؤية تلك السيّدة، لسماع صوتها، لتلمُّس طلّتها، نحن الذين ما كان لهم في الحرب الطاحنة سوى صوتها عزاء.
الحرب مقيتة، مقرفة، جحيمٌ نَهِم وقبر مُشرَّع على الموت. أتألّم لمن يمرّ اليوم في أتّونها. قلبي على من يذوق اليوم علقمها. وأشدُّ ما يؤلمني رهان البعض على الحرب. هناك مَن ينادي بها، يفتعلها، يؤجّج نارها، لا بل يعرقل وَأدَها إن عَملَ الخيّرون على وأدها.
الحرب رهان خاسر حتمًا. اسألوا اللبنانيّين! لقد دُمِّر بلدهم وتخلّف سنين ضوئيّة إلى الوراء، من أجل لا شيء. حسنة الحرب الوحيدة هي أنّها أفهمتهم جميعًا أنّ لا مفرّ من أن يعيشوا معًا تحت سماء الله الواحدة. لو تواصوا بالمعروف قبلاً وعرفوا كيف يتلاقوا ويتحاوروا وينظّموا خلافاتهم بحضارة، لكانوا وفّروا على وطنهم كلّ هذا الدمار وحقنوا الدماء وتلافوا أرتال الشهداء والجرحى والمعوّقين. للأسف، في الشرق لا نتعلّم إلاّ إذا سُفك الدم مدرارًا. هذا إذا تعلّمنا!
غالبًا ما تُروى الحرب “من فوق”، من وجهة نظر أمرائها، أولئك الذين أشعلوا نيرانها وأداروها واستفادوا من فلتانها وفوضاها. إن أُرِّخَت من وجهة النظر هذه، فهذا تاريخها الأسود الوسِخ.
قلّة من يرويها “من تحت”، من وجهة نظر ضحاياها، كما عاشها الشعب “المعتّر” الذي وحده عانى ويلاتها. من الحرب اللبنانيّة، من يذكر اليوم ابنَ عمّي يوسف، ذلك الجنديّ الشهيد الذي راحت أمّه الثكلى تفتّش عن جثمانه في المقابر الجماعيّة بين الموتى، فتجاوزته مرّة واثنتين وثلاثًا من غير أن تتعرّف عليه من شدّة التشوّه؟ من سيكتبُ عن ذلك الولد الذي تيتّم، وتلك المرأة التي ترمّلت باكرًا، وذاك الشابّ “طربون الحبق” الذي استُجلِسَ كرسيّ الإعاقة كُرهًا؟ مَن سيجمع قطرات الدموع على فقيدٍ راح، ويعدّ صيحات الوجع على جرح لا يندمل، ويحصي زخّات الحنين لقرية هُجرَت ودارٍ دُمِّر؟ مَن سيُدوّن تاريخ من وُوروا الثرى من غير أن تُعرَف أسماؤهم، ومن قُبروا من غير أن تُذرَف عليهم دمعة وتُتلى عليهم صلاة؟ من سيعدلُ لمن قضوا ظلمًا أذلاّء مقهورين؟
هؤلاء الناس كانوا “حطب الثورة”، كما أسماهم منصور الرحباني في مسرحيّته “صيف 840”: “نحنا للي كنّا حطب الثورة. نحنا الناس العاديّين ما حدا بيذكرنا، لكن لولانا ما حدا قاتل وما حدا انتصر. نحنا مجهولين ومنبقى مجهولين ما إلنا أسامي ولا عناوين. بكفّي نحرّر بلدنا من المحتّلين”.
هؤلاء المنسيّون هم وجه الحرب المشرِّف. بهم وحدهم تليق أوسمةُ الحرب، ولهم دون غيرهم يُعزَف نشيد المجد.