السلايدر الرئيسيشرق أوسط
الولايات المتّحدة تتسلَّم أفكارًا لبنانيّةً جديدةً لترسيم الحدود مع إسرائيل… والحصانة في القانون الدوليّ
جمال دملج
– بيروت – من جمال دملج – على رغم وفرة الحجج والبراهين التي دائمًا ما يستند إليها لبنان لدى الإعراب عن رفضه القاطع لترسيم حدوده البحريّة مع فلسطين التاريخيّة بموجب الخطّ الذي اقترحه الديبلوماسيّ الأميركيّ فريدريك هوف أثناء قيامه بمهامّ التفاوض حول هذا الملفّ الشائك بين الجانبين اللبنانيّ والإسرائيليّ قبل قرابة الخمسةِ أعوامٍ من الزمان، فإنّ حصيلة ما اتّخذته الولايات المتّحدة لغاية الآن من مواقفَ وإجراءاتٍ على هامش وساطاتها التفاوضيّة المتواصلة لا تزال تُظهر انحيازًا واضحًا لصالح الدولة العبريّة على حساب الجمهوريّة اللبنانيّة، علمًا أنّ هذا الانحياز الذي غالبًا ما يُغلَّف بكلامٍ ديبلوماسيٍّ منمَّقٍ مع الجانبين لم يحُل في نهاية المطاف دون استمرار لبنان في الإصرار على عدم التنازل عن أيِّ مترٍ من مناطقه السياديّة في البرّ والبحر على حدٍّ سواء.
في هذا السياق، جاءت زيارة السفيرة الأميركيّة في بيروت إليزابيت ريتشارد نهار أوّل من أمس الخميس لكلٍّ من رئيس الجمهوريّة العماد ميشال عون ورئيس مجلس النوّاب نبيه برّي لتُعيد تسليط الأضواء مجدَّدًا على ما بات يُعرف بـ “خطّ هوف”، ولا سيّما بعدما أشارت تسريباتٌ صحافيّةٌ، وفقًا لمعلوماتٍ رسميّةٍ، إلى أنّ الرئيس عون سلَّم السفيرة ريتشارد أفكارًا تتعلَّق بآليّةِ عملٍ يُمكن اعتمادها لترسيم الحدود البحريّة الجنوبيّة، فضلًا عن أنّ الرئيس برّي أكَّد لها من جانبه على أنّ الموقف موحَّدٌ بين اللبنانيّين حول ترسيم الحدود البحريّة والمنطقة الاقتصاديّة الخالصة، الأمر الذي يعني في إطار ما يعنيه أنّ الكرة باتت مرميّةً في ملعب الأميركيّين والإسرائيليّين إذا ما أرادوا العمل على تحقيق أيِّ تقدُّمٍ من شأنه أن يؤدّي إلى ضبط صمّام الأمان لهذه القنبلة الموقوتة والمعرَّضة في أيِّ لحظةٍ لخطر الانفجار.
وإذا كانت الأفكار التي طرحها الرئيس عون للسفيرة ريتشارد قد جاءت في أعقاب الاتفاق عليها مع الرئيس برّي خلال اللقاء الذي جمعهما مؤخَّرًا في قصر بعبدا، فإنّ التكتُّم السائد حتّى الآن على طبيعتها وفحواها، وإن كان له ما يبرِّره بالطبع من منطلق الحرص الشديد على إبقائها خارج نطاق البازارات السياسيّة والإعلاميّة، ولكنّ النقطة الأهمّ في سياقه تتمثَّل في أنّ العوامل التي استوجبته أظهرَت في الوقت نفسه قدرًا كبيرًا من البراغماتيّة والمسؤوليّة في طريقة توصُّل الرئيسين عون وبرّي إلى “صيغةٍ معقولةٍ” لتحريك الملفّ، ولا سيّما في ظلّ الظروف الحسّاسة والخطيرة التي تمرّ بها المنطقة في الوقت الراهن من إيران إلى جنوب لبنان، علمًا أنّ مصادرَ مطّلعةً أكَّدت البارحة لصحيفة “اللواء” أنّ تلك الأفكار تأخذ في الاعتبار الأسباب التي أدَّت إلى تعثُّر المفاوضات سابقًا، والتي قادها يومذاك الديبلوماسيّ الأميركيّ هوف وتوصَّل فيها إلى رسمِ خطٍّ لم يوافِق عليه لبنان، فضلًا عن أنّها أفكارٌ تقترح بدائلَ ضمن الثوابت الوطنيّة المتَّفق عليها بين أركان الدولة والتي تحفظ السيادة والاستقلال وحقّ لبنان في استثمار ثرواته النفطيّة والغازيّة.
لا شكّ في أنّ الولايات المتّحدة الأميركيّة التي لم تتوقَّف يومًا عن السعي في اتّجاه تسوية هذا النزاع الحدوديّ بأفضل السُبل الممكنة كادت تنجح مرارًا في التوصُّل إلى إنهائه لولا اضطرارها مرارًا أيضًا إلى مراعاة التعنُّت الإسرائيليّ، ولدرجةِ أنّ فريدريك هوف نفسه كان قد أعرب منذ البداية عن اقتناعه بوجهة النظر اللبنانيّة وبأنّ إسرائيل تحاول أن تتمدَّد من دون وجهِ حقٍّ خارج حدودها البحريّة في اتّجاه الحدود البحريّة للمنطقة الاقتصاديّة الخالصة في جنوب لبنان، قبل أن يُقدَّر له الذهاب لاحقًا إلى تلّ أبيب، حيث سرعان ما تبدَّلت قناعاته، وخصوصًا بعدما عاد إلى بيروت ليقترح على الجانب اللبنانيّ أن يقبل، ولو مؤقَّتًا، بأن يتراجع الجانب الإسرائيليّ بما يقارب الستّين في المئة من المنطقة التي تحاول الدولة العبريّة قرصنتها، والتي تبلغ مساحتها الكاملة 860 كيلومترًا مربَّعًا، بينما تبقى نسبة الأربعين في المئة من المنطقة، أيْ 310 كيلومتراتٍ مربَّعةٍ على حالها، من دون أن يستثمر فيها لبنان، ولا حتّى إسرائيل، وهو الاقتراح الذي لم يلحظ أنّ لا أحد من اللبنانيّين يمكن أن يقبَل به طالما أنّ ملكيّة هذه المساحة تعود بكاملها للبنان.
هذا الكلام، وإن كان يعني في إطار ما يعنيه أنّ الولايات المتّحدة لم تأتِ إلى لبنان لحماية مصالحه وإنّما لحماية مصالح إسرائيل التي تقضي بعدم القيام بأيِّ نشاطٍ بتروليٍّ في المنطقة المحاذية لها، تمامًا مثلما يعني أيضًا أنّ الرهان على إمكانيّة قبول بيروت باعتماد “خطّ هوف” سيكون في المحصِّلة النهائيّة رهانًا خاسرًا، ولكنّ الغرض من وراء استحضاره هنا يتمثَّل في وجوب التنويه بأنّه وفقًا للمادّة الرابعة والسبعين من قانون البحار الصادر عام 1982، فإذا لم يستطِع الطرفان المتنازعان التوصُّل إلى “حلٍّ عادلٍ” خلال فترةٍ معقولةٍ من الزمن، ينبغي عليهم تطبيق الجزء الخامس عشر الذي ينصّ على أنّه “في حال عدم وجودِ اتّفاقٍ، فعلى كلِّ دولةٍ أن لا تتعدّى الحدّ الوسطيّ ما بين الدولتين”… وحسبي أنّ لبنان قادرٌ بالفعل في هذه الأثناء على تحصين حدوده بالقانون الدوليّ… والخير دائمًا في العهد من وراء القصد.