تحتاج الأزمات/الأحداث/الثورات/المشاريع السياسية…..إلخ. إياً تكّن، إلى نوعين من السلاح. سلاح الحرب وسلاح القلم. ولم يشهد التاريخ نجاح ثورة أو مشاريع نوعية تنقل النمطية السياسية إلى نوع أخر من غير أقلام قوية، أو ألسنة، تدعوا وتنشر مبادئها بين الناس فالسلاح وحده لا يكفي لتدعيم مبدأ أو مبادئ الثورات أو الرغبة في التغيير. فإذا لم تتبدّل القيم الفكرية ويخلع الناس عن عقولهم طابع الخضوع والجمود، عجز السلاح عن القيام بثورة ناجحة.
المجتمع الكُردي ككل المجتمعات. له نظام حقيقة خاص به، وسياساته العامة وممارسات أعضاء هذا المجتمع، وحتى بحثهم عن لقمة عيشهم هي جزء من النظام المجتمعي العام. وهذه الحقيقة هي مجموعة الإجراءات والممارسات المنظمة للإنتاج والتوزيع والعدالة والحقيقة والثقافة والكتّابة والتأهيل الإداري والأكاديمي. غير أن الملفوظات الخطابية للحركة السياسية المتجهة صوب هذه الحقيقة والممارسة لعكسها تُبين عن مدى ربط تلك الحقيقة دائرياً بسلطة كُردية /حكومية وحزبية على اختلافها/ تنتجها وتحميها، وتشرحها وفق مقاسها لتعلن في النهاية عن نظام الحقيقة، وهو نظام سلطوي لا علاقة له بالحقيقة.
ومع صعود الفئات الشابة ككتلة صُلبة قبل الحدث السوري. بات من الصعب جداً، التعامل الحزبي بنمطية الثمانينات مع عقول تعرفت على العالم كيف يقرأ، وكيف يأكل، وكيف يمارس حقوقه. لكن الإجحاف واللامصداقية استمرت إلى حيننا هذا. بعد سبع سنوات من الحدث السوري، ومع الهامش الضخم للحرية والعمل الثقافي والإعلامي والحزبي، قبل إعادة عجلة حرية العمل الحزبي إلى ما كانت عليه قبل 2011، بعدّ خنق الواقع السياسي والإصرار على الترخيصات وغيرها من المشاريع و….إلخ. فإن الفترة كانت كافية بخلق نوع جديد من الحركة الثقافية والترجمات وتطوير الإعلام الحزبي والبدأ بمشروع كتابة مناهج مدرسية عصرية، بما في ذلك اعتماد أحد مدن ومحافظات إقليم كوردستان العراق مكاناً للكورد السوريين المقيمين هناك. لكن لا شيء من كل هذا حصل. باختصار تم الاشتغال على تلازم مسارات إبعاد أيّ تأثيرات للوعي الفكري والثقافي خشية تبلور وعي حزبي جديد. وتعويم جميع القضايا المتعلقة بالشباب وتطلعاتهم المستقبلية وخاصة ممن يحملون إمكانيات ثقافية ودرجات علمية.
وهذه إحدى أبر الأسباب المباشرة التي دفعت الأحزاب الكُردية لوئد التطلعات الشبابية. هيَّ لم تفشل، ولم تنجح في لجم تطلعات الشباب والكتّاب وفرض رؤاهم بأريحية وسلاسة، كما عجز المثقف الكُردي من إبعاد العقول المتحجرة ومعارضي الكفاءات وأصحاب الإمكانيات الفكرية والثقافية. كِلا الطرفين دعموا موقفهم بأدوات أحادية. منهم من لجأ إلى فرض العنف وزرع الخوف ورهبة الاعتقالات والنفيّ ولغة التهديد، ومعظم الأطراف الكُردية الأخرى لم تنظر إلى الثقافة والفكر والأقلام الكُردية خارج إطار التوظيف الشخصي أو النفعي. كُلهم أهملوا أهمية القلمّ الكُردي وكان ذلك سبباً في غوص القضية الكُردية في مستنقع أثِمّ.
العلاقة بين المثقف الكُردي والسياسي وجُلّ الأحزاب الكُردية هي علاقة نفي واعتداء وقتل للروح الإنسانية ومحاولات حثيثة لطمس معالم الإشراق والانعتاق من القيود وعمليات التأطير التي يفرضها السياسي المتخلف على المثقفين وحتى على السياسيين المنفتحين على الأطر الشبابية والثقافية.
جميع الأطراف الكُردية تمتلك السلطة. وكلٌ منها بحسب موقعها ومكانتها والحدود الجغرافية لسيطرتها، أو ضمن الحرم الحزبي الخاص. القمع صورة من صور التعامل اليومي والشهري لقسم كبير من تلك الأطراف. وهؤلاء لم يجدوا في السلطة سوى أداة للقمع المفرط، ما يدفع بالعوام قبل النُخبّ الفكرية، إلى النظر للسلطة بأنها عنف وسلب مطلق لا يمكنهم العيش معها. ولا مجال للحريات أن تنتعش بما هي نقيض مباشر للعنف السلطوي بشقيه الرسمي والحزبي الخاص.
تشتغل تلك العلل والعالات على المجتمع الكُردي، عبر ربط الحقيقة بوجودهم وبممارستهم للعنف السلطوي. ويصورون الواقع على إنه جزءٌ من السلطة التي يملكونها. علماً أن الحقيقة واليقين والقضية الكُردية هيَّ جزء من العالم، ينتج هذا الثالوث بفضل التزامات عدّة وتحصن بشكل منتظم من الأفاعيل السلطوية التي تُمارس ضدها.
من المتفق عليه، إن أيّ حقيقة تحتاج إلى سلطة للتطبيق. ومن الممكن أن لا تكون السلطة سلبية بالمطلق، لكن العلاقة بين السلطة الحقيقة في المنظور الحزبي الكُردي وبشكل دقيق وفق رؤى ومحددات من يسيطر ويحكمّ ومن يسعى نحو السيطرة والسلطة وملحقاتها، هي علاقة انتقاء وعداء، لجعل الحقيقة داخل السلطة فقط لا غير، واعتبار أيّ حقيقة خارج سلطتهم حقيقة وهمية هشة لا غير.
حتى في الطرف الأخر، فإن غالبيتهم غير مستعد لجعل الحقيقة حرة، أو محاربة الخطأ؛ فحسب، همّ ينحون لخلق حقيقة من الممكن وبيُسر اختراقها وفق علاقات خاصة.
أكثر ما يؤرق المتخلفين وجلاوذة التمسك بالسلطة، هو أن السلطة تأتي من الأسفل، أيّ أنهم يخشون دوماً ممن يكمن في القاع. وتحرك القاع خاصة أصحاب الأقلام والأفكار يعني كسر حاجز الخوف وكسر الفصل بين المسيطرين ومن يقعون تحت السيطرة.
تلك الفئات تجدّ نفسها ملزمة وبالضرورة إلى اختلاق وتأسيس وتأليف أجهزة إنتاج وثقافة وإعلام رثة وبالية وحتى حقيرة أيضاً تمتاز بعقول ضحلة وضيقة ومتخلفة تُشبه إلى حد بعيد تفكير الإنسان البدائي وما يحمله من أرطال قارية وتفكير بدائي لم يخرج من عباءة الطاعة العمياء. ويحملون من المهارات والإمكانيات ما لا يؤهلهم حتى لمجرد الاستمتاع إلى برنامج فكري أو رعاية الطفولة.
قيامّ أيّ نوع جديد من العلاقات للمثقفين والمفكرين والكتّاب، ستكون قائمة على أساس علاقات القوة المتعددة والمتشكلة من القوة الصلبة وستتجه نحو أيّ نوع من المقاومة والتصدي لبربرية الجماعات والأفكار الضيقة، وهي التي ستحمل الانقسام الشاقولي والأفقي للتكتلات السلبية باطراد.
يكفي التدليل على تجربة الجبهة الوطنية الجزائرية في تسعينيات القرن الماضي، حين حصدت على حوالي80% من الأصوات وصُنفت على أساس أصوات القوة الناعمة، في مقابل الـ20% من أصوات القوة الصلبة التي بقيت خارج دائرة سلطة الجبهة الجزائرية، وما تلاها خلال /3/ أعوام فقط من الخلافات والمواجهات التي خلفت أكثر من 250ألف قتيل وجريح وأعادت الجزائر عشرات الأعوام إلى الخلف.