أقلام مختارة

عيون بوتين الشاخصة على لبنان

فـــؤاد مطـــر

فـــؤاد مطـــر

ثمة ملامح غير مكتملة الوضوح في المشهد السياسي اللبناني. ولكن بعض الوقائع ربطاً بما هو حاصل في المنطقة وبعلاقات متوازنة ومستقرة حدثت في السبعينات، تترك انطباعاً حول اهتمام ملحوظ من جانب روسيا البوتينية بلبنان وتطلعات من جانب الرئيس بوتين إلى أن يعزز الحضور الروسي في لبنان.
من الجائز الافتراض أن المحفِّز لهذا الاهتمام المستجدّ بعد أكثر من نصف قرن مضى هو أن روسيا حققت على ما يجوز اعتباره استيطاناً دائماً في سوريا. وتحت حيثيات مكافحة الإرهاب والتقيد بمعاهدة أبرمها الرئيس الأسد الأب، ثم تعززت باتفاقيات اقتصادية وسياسية وعسكرية اضطرارية في عهد الابن الوارث الرئيس بشَّار، باتت روسيا حاضرة بتميز في القرار السوري ومنتشرة على أراضٍ من سوريا في شكل قواعد خاصة بها ومشارِكة في قواعد جوية، وهذا يعني أن الأجواء لم تعد سورية فقط وإنما للطائرات الحربية الروسية حصة فيها تماماً كتلك الحصة التي للبحرية الروسية في مياه الشاطئ السوري المتوسطي الدافئة.
بعد هذا الاستيطان الذي تعزز باعتماد الروسيّة لغةً ثالثةً في المناهج المدرسية السورية، وارتفاع نسبة العائلات الروسية المستقرة في مناطق الوجود العسكري، وهي عائلات أفرادها زوجات وأبناء لها مدارسها ومتاجرها وعاداتها، بات الرئيس بوتين، وأيضاً على ما يجوز الافتراض، يخطط لتأمين الكتف اللبنانية بحيث يصون الوجود الروسي سواء كان بالتراضي مع الوجود الإيراني أو تخطيطاً لتقليصه خطوة خطوة. وزيادة في التوضيح يمكن القول إنه إذا كان الوجود الإيراني مطْمئناً إلى لبنانه المتمثل في «حزب الله» فإن روسيا التي تتسورن أو سوريا التي تتروسن تحتاج إلى اطمئنان مماثل في لبنان. ولهذا فلا بد من إضافة بند إلى مشروع البقاء الطويل في سوريا وبحيث لا يصيب الدور الحربي البوتيني ما أصاب الدور السوفياتي في أفغانستان في الحقبة الشيوعية.
هل ثمة فرصة متاحة أمام روسيا بوتين لتحقيق ما يصبو إليه بالنسبة إلى الكتف اللبنانية التي يستند إليها وهو يعزز وجوده في سوريا، وبحيث لا يفاجأ ذات يوم بأن تعكير صفو روسيا المتسورنة يُطبخ على نار هادئة في لبنان وقد تلفح فجأة رياحٌ مصدرها لبنان وجه الوجود الروسي في سوريا وتصيبه مع عتوِّ هذه الرياح ما أصاب القوات السورية التي كانت قبضتها ممسكة بلبنان ثم بقدرة انتفاضة جرى ترحيلها؟
ليس لروسيا البوتينية شعبية في لبنان. بل إن الصين ذات شعبية ملحوظة. وتقتصر شعبية روسيا البوتينية على بعثات طالبية في الجامعات الروسية يعود الفضل فيها إلى الزعيم الدرزي الراحل كمال جنبلاط الذي أدرج في اهتماماته المجتمعية الاتحاد السوفياتي الذي خصص لحزبه منحة دراسية ثم زيد العدد سنة بعد أُخرى إلى أن وصل في حقبة زعامة جنبلاط الابن وليد إلى أكثر من مائة منحة سنوياً يستفيد منها أبناء الطائفة في تخصصات معظمها في النواحي العلمية والهندسية والطبية. وعندما ارتأى وليد جنبلاط بالعين البصيرة والنظرة المستقبلية توظيف بعض الاستثمارات في موسكو فإن هذه الخطوة لقيت تقديراً نوعياً من دوائر الحُكْم في روسيا البوتينية، فضلاً عن نظرة موضوعية إلى هذا السياسي اللبناني الذي حقق توازناً في العلاقة مع المعسكر الاشتراكي الذي لم يتناثر في روسيا، ومع المعسكر الرأسمالي الغربي الأميركي – الأوروبي. ولذا هنالك باستمرار إصغاء من جانب مسؤولين في المعسكريْن لتقديرات الموقف التي يسمعونها من وليد جنبلاط عند لقاءاتهم به في لبنان أو خلال زيارات يقوم بها إلى الخارج.
في الآونة الأخيرة حدثت نقلة نوعية على صعيد عملية تعزيز العلاقة الروسية وبالتدرج مع لبنان، من معالمها أن موضوع سلامة لبنان فلا تؤذيه إسرائيل بات في جدول أعمال التشاور بين الرئيس بوتين ورئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو. كما حدثت حالة اهتمام نوعي من جانب الرئيس بوتين لاجتراح صيغة تريح لبنان في موضوع النازحين فأرسل لهذا الغرض وفداً إلى بيروت.
في الموضوعيْن تستطيع روسيا بوتين أن تسجل وقفة التفاف لبنانية حولها. فهي متكئة على الطائفة الأرثوذكسية في لبنان وعلى الشتات اليساري والاشتراكي، وتمون نسبياً على الرئيس بشَّار من أجْل الأخذ بصيغة يرتاح لها لبنان. كما أنها ذات تأثير داخل إسرائيل على يهودها الذين يفوق عددهم المليون والمحتمل ترؤس أحدهم للحكومة بعد نتنياهو، فلا يلحق أي أذى بلبنان، خصوصاً أن موْنتها على الرئيس بشَّار ذات تأثير هي الأُخرى على السيد حسن نصر الله الأمين العام «حزب الله» بل وعلى مرجعيته في طهران.
وإلى ذلك فإنه كما للورقة الأرثوذكسية في لبنان تأثير فإن للورقة الأرثوذكسية في كلٍّ من فلسطين وسوريا تأثيراً مماثلاً. الجميع في كنف الرحاب المسكونية.
ما يمكن قوله حتى الآن إن العيون البوتينية شاخصة نحو لبنان. وما هو معروف عن الرئيس بوتين أنه نقيض الرئيس ترمب لا يشغل نفسه بالتغريد وبالمال… ولا بالتراجع عن قرار من الواجب عليه تنفيذه، وقبل التنفيذ بعشر دقائق. وثمة مثل شعبي روسي لا يلتزم به بوتين قدْر اعتماده نهجاً من جانب ترمب، وهو: «عندما يتكلم المال يصمت الصدق».

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق