عثمان ميرغني
لا أدري كيف ولماذا اختار ممثلا الوساطة الأفريقية الإثيوبية في السودان يوم أمس بالذات موعداً للقاء المباشر الذي طلبا عقده بين المجلس العسكري و«قوى الحرية والتغيير»، لكن الاختيار لم يكن موفقاً بتاتاً في تقديري. فيوم أمس صادف ذكرى مرور شهر على مذبحة فض الاعتصام أمام القيادة العامة للقوات المسلحة في التاسع والعشرين من رمضان الموافق الثالث من يونيو (حزيران)، وهو تاريخ لن يبرح ذاكرة السودانيين بسهولة. الدعوة كما يبدو كانت موجهة للضغط على «قوى الحرية والتغيير» باعتبارها الطرف الذي ظل يرفض التفاوض المباشر منذ أحداث فض الاعتصام، واختار التفاوض غير المباشر عبر الوسطاء مقدماً في الوقت ذاته عدداً من الشروط التي اعتبرها إجراءات لإعادة بناء الثقة قبل عودة الحوار المباشر. أما المجلس العسكري فكان قد أبلغ الوسطاء قبل المظاهرات والمواكب الضخمة التي نظمت في الثلاثين من يونيو، رغبته في عودة الحوار المباشر، وهو ما فسر وقتها على أنه محاولة لإحراج «قوى الحرية والتغيير» دبلوماسياً أمام الوسيط الأفريقي الإثيوبي المدعوم دولياً، وفي الوقت ذاته إرباك المشهد قبل المظاهرات والمواكب الاحتجاجية.
لم يكن هناك أي تطور جديد قبل الدعوة المفاجئة التي أعلنها ممثلا الوساطة الأفريقية الإثيوبية عبر وسائل الإعلام للضغط على الطرفين، إذ كانت الأمور تراوح مكانها على صعيد المفاوضات المتعثرة، وتشهد تصعيداً سواء بالتحركات والتصريحات، أو بالعمل الميداني. فالمجلس العسكري صعّد حملة الاعتقالات للناشطين، وتصدى للمواكب بالرصاص على الرغم من التحذيرات الدولية، كما وقعت تصفيات استهدفت عدداً من الناشطين في لجان مقاومة الأحياء التي تنظم وتنسق المظاهرات والمواكب. أما «قوى الحرية والتغيير» فقد لجأت إلى التصعيد عبر السلاح الوحيد المتاح وهو تنظيم المواكب والاحتجاجات السلمية، فأصدرت الدعوة لمواكب 30 يونيو التي أذهلت الناس بضخامتها، إذ فاقت أعداد المشاركين فيها كل الاحتجاجات السابقة بما فيها مليونيات الاعتصام، وبناء على ذلك النجاح دعت إلى مواكب أخرى في الثالث عشر من يوليو (تموز) الجاري، واعتصام وإضراب شامل في الرابع عشر منه.
كان هذا هو المشهد قبل دعوة وسطاء المبادرة الأفريقية الإثيوبية للاجتماع المباشر بين المجلس العسكري و«قوى الحرية والتغيير». بدت الدعوة للبعض مغامرة غير محسوبة لإجبار الطرفين على الجلوس وجها لوجه حول طاولة التفاوض، لكنها لم تكن كذلك، بل كانت محسوبة بذكاء دبلوماسي لتحقيق أكبر ضغط على الطرفين، وكانت مرفوقة في الوقت ذاته بتحذير مبطن. فممثلا الوساطة حرصا على التنبيه إلى أن الاتحاد الأفريقي سيعقد اجتماعاً يومي 7 و8 يوليو وأن الموقف من الوساطة سيبحث، بما يعني أن الطرف الذي يعتبر معرقلاً سيوجه إليه اللوم وسيكون عرضة لضغط أفريقي ودولي. كذلك لم ينس الوسيطان القول إن المبادرة الأفريقية الإثيوبية لن تستمر إلى ما لا نهاية، وذلك لمراكمة الضغوط وإفهام الطرفين، وبالذات المجلس العسكري، أن هناك مدى زمنياً للمبادرة المطروحة، وأنه لا مجال لاستمرار المماطلة ومناورات كسب الوقت.
«قوى الحرية والتغيير» التي تواجه ضغطاً شديداً من الشارع المحتقن بالغضب، والذي بدأ قسم كبير منه يميل إلى وقف التفاوض مع المجلس العسكري ورفض تقاسم السلطة رافعاً شعارات وهتافات «مدنيااااااا»، في إشارة لطلب مدنية السلطة، قررت التجاوب مع دعوة الوسيط الأفريقي الإثيوبي، حتى لا تتهم بالعرقلة، وكي لا تفقد التأييد والتعاطف الأفريقي والدولي الذي انتزعته الثورة بسلميتها وبقدرتها على الاستمرار في مواجهة كل التحديات والقمع. لكن الموافقة كانت مرفوقة ببعض الشروط ومنها تذكير الوسطاء بضرورة تنفيذ مطالب إعادة بناء الثقة وعلى رأسها أن أي مشروع تفاوض الآن لا بد أن يستند إلى ما تم الاتفاق عليه سابقاً، وكذلك إطلاق سراح المعتقلين من «قوى الحرية» ومن لجان المقاومة في الأحياء، وعودة خدمة الإنترنت التي قطعها المجلس العسكري منذ شهر، مع التشديد على مسألة التحقيق المستقل بإشراف أفريقي ودولي في أحداث فض الاعتصام.
ولتفادي أخطاء وقعت فيها في المفاوضات المستمرة منذ قرابة الثلاثة أشهر مع المجلس العسكري من دون التوصل إلى نتيجة بعدما أعلن المجلس تراجعه عن الاتفاق السابق المعلن، اشترطت «قوى الحرية والتغيير» هذه المرة تسلمها لنسخة مكتوبة من مشروع الاتفاق الذي قال الوسيطان الأفريقي والإثيوبي إنهما ضمناه الملاحظات التي قدمها الطرفان المعنيان. كذلك اشترطت أن يكون هناك سقف زمني للمفاوضات واقترحت 72 ساعة لإنجاز الاتفاق خصوصاً في النقطة التي عرقلت كل الجهود السابقة وهي المتعلقة بتركيبة مجلس السيادة ورئاسته. هذا المدى الزمني المقصود منه منع المماطلات، وعدم تجاوز تاريخ انعقاد اجتماعات الاتحاد الأفريقي الأسبوع المقبل حتى يبقى الضغط على المجلس العسكري.
على الرغم من كل هذه المناورات الدبلوماسية من الأطراف الثلاثة، الوسيط الأفريقي الإثيوبي، و«قوى الحرية والتغيير»، والمجلس العسكري، إلا أن الحقيقة هي أن تحقيق اتفاق ثم الانتقال لتنفيذه، يبقى مسألة صعبة للغاية، لكي لا نقول بعيدة المنال. فالثقة انهارت تماماً بين الطرفين، والأجواء في الشارع باتت محتقنة منذ فض الاعتصام وما تبعه من أحداث وقمع قتل خلاله المزيد من شباب الثورة. لذلك اضطرت «قوى الحرية والتغيير» أمس إلى تبرير قرارها أمام الشارع المنتفض، مشيرة إلى أنها تقود معركة على مسارين؛ ثوري ودبلوماسي، وأن قبولها بالعودة إلى التفاوض المباشر كان من أجل تكامل المسارين لتحقيق أهداف الثورة في الانتقال إلى حكم مدني، ولكي لا تفقد المكاسب التي تحققت على الصعيد الدولي.
الكرة الآن في ملعب المجلس العسكري، لكي يؤكد الجدية في نقل السلطة وذلك في ظل الاتهامات بأنه يناور للالتفاف على «قوى الحرية والتغيير» وللاحتفاظ بالسلطة عاجلاً أو آجلاً. فإذا لم يحدث اتفاق قبل موعد اجتماعات الاتحاد الأفريقي، فإن المجلس سيواجه ضغوطاً وربما إجراءات أفريقية إضافية وعقوبات غربية. وعلى الصعيد الداخلي ستكون هناك مواكب 13 يوليو ثم العصيان والإضراب الشامل يوم 14 يوليو. صحيح أن المجلس العسكري يمسك بزمام السلطة الآن ولديه المال والسلاح، وتحت تصرفه الأجهزة الأمنية وكتائب الظل، وقوات الدعم السريع، إلا أن «قوى الحرية والتغيير» لديها أيضاً أورق قوية في صالحها. فهناك تصميم الشارع الذي أبدى عزماً قوياً على مواصلة المواكب والتصعيد، وهناك الوضع الدولي المؤيد لنقل السلطة إلى حكومة مدنية. أضف إلى ذلك أن «قوى الحرية والتغيير» بقيت متماسكة رغم بعض التباينات التي برزت أحياناً، مما أفشل المحاولات لتفكيكها باستمالة بعض أطرافها وعزل أخرى وإضعاف تجمع المهنيين بالاعتقالات. مدنية السلطة ليست مطلباً للمناورة، بل ضرورة حتمية تقتضيها المصلحة الوطنية. فالسودان يحتاج إلى تعاون المجتمع الدولي ووقوفه معه للخروج من العزلة والعقوبات التي واجهها في عهد الرئيس الساقط عمر البشير وحرمته من الحصول على القروض ومنح المساعدات الدولية وإعفاءات الديون، مما أحدث أزمة اقتصاداية طاحنة ومعاناة غير مسبوقة. ومن دون حكومة مدنية لن يحصل على شيء من ذلك وهو ما أوضحته القوى الدولية وعلى رأسها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بلا مواربة للأطراف المعنية.
الأمور تقف الآن أمام مفترق طرق حقيقي، فإما انفراج يؤدي إلى نقل السلطة وتسلم حكومة مدنية، أو تصعيد لم تعرفه هذه الثورة منذ بدايتها. إلى أين تميل الكفة؟ لا أحد يمكنه أن يجزم في هذه اللحظة وإن كانت هناك مؤشرات على أن الضغوط قد تدفع المجلس العسكري لتقديم تنازلات، لكن مدى نجاحها سيعتمد ما إذا كانت شكلية أو جوهرية.
لم يكن هناك أي تطور جديد قبل الدعوة المفاجئة التي أعلنها ممثلا الوساطة الأفريقية الإثيوبية عبر وسائل الإعلام للضغط على الطرفين، إذ كانت الأمور تراوح مكانها على صعيد المفاوضات المتعثرة، وتشهد تصعيداً سواء بالتحركات والتصريحات، أو بالعمل الميداني. فالمجلس العسكري صعّد حملة الاعتقالات للناشطين، وتصدى للمواكب بالرصاص على الرغم من التحذيرات الدولية، كما وقعت تصفيات استهدفت عدداً من الناشطين في لجان مقاومة الأحياء التي تنظم وتنسق المظاهرات والمواكب. أما «قوى الحرية والتغيير» فقد لجأت إلى التصعيد عبر السلاح الوحيد المتاح وهو تنظيم المواكب والاحتجاجات السلمية، فأصدرت الدعوة لمواكب 30 يونيو التي أذهلت الناس بضخامتها، إذ فاقت أعداد المشاركين فيها كل الاحتجاجات السابقة بما فيها مليونيات الاعتصام، وبناء على ذلك النجاح دعت إلى مواكب أخرى في الثالث عشر من يوليو (تموز) الجاري، واعتصام وإضراب شامل في الرابع عشر منه.
كان هذا هو المشهد قبل دعوة وسطاء المبادرة الأفريقية الإثيوبية للاجتماع المباشر بين المجلس العسكري و«قوى الحرية والتغيير». بدت الدعوة للبعض مغامرة غير محسوبة لإجبار الطرفين على الجلوس وجها لوجه حول طاولة التفاوض، لكنها لم تكن كذلك، بل كانت محسوبة بذكاء دبلوماسي لتحقيق أكبر ضغط على الطرفين، وكانت مرفوقة في الوقت ذاته بتحذير مبطن. فممثلا الوساطة حرصا على التنبيه إلى أن الاتحاد الأفريقي سيعقد اجتماعاً يومي 7 و8 يوليو وأن الموقف من الوساطة سيبحث، بما يعني أن الطرف الذي يعتبر معرقلاً سيوجه إليه اللوم وسيكون عرضة لضغط أفريقي ودولي. كذلك لم ينس الوسيطان القول إن المبادرة الأفريقية الإثيوبية لن تستمر إلى ما لا نهاية، وذلك لمراكمة الضغوط وإفهام الطرفين، وبالذات المجلس العسكري، أن هناك مدى زمنياً للمبادرة المطروحة، وأنه لا مجال لاستمرار المماطلة ومناورات كسب الوقت.
«قوى الحرية والتغيير» التي تواجه ضغطاً شديداً من الشارع المحتقن بالغضب، والذي بدأ قسم كبير منه يميل إلى وقف التفاوض مع المجلس العسكري ورفض تقاسم السلطة رافعاً شعارات وهتافات «مدنيااااااا»، في إشارة لطلب مدنية السلطة، قررت التجاوب مع دعوة الوسيط الأفريقي الإثيوبي، حتى لا تتهم بالعرقلة، وكي لا تفقد التأييد والتعاطف الأفريقي والدولي الذي انتزعته الثورة بسلميتها وبقدرتها على الاستمرار في مواجهة كل التحديات والقمع. لكن الموافقة كانت مرفوقة ببعض الشروط ومنها تذكير الوسطاء بضرورة تنفيذ مطالب إعادة بناء الثقة وعلى رأسها أن أي مشروع تفاوض الآن لا بد أن يستند إلى ما تم الاتفاق عليه سابقاً، وكذلك إطلاق سراح المعتقلين من «قوى الحرية» ومن لجان المقاومة في الأحياء، وعودة خدمة الإنترنت التي قطعها المجلس العسكري منذ شهر، مع التشديد على مسألة التحقيق المستقل بإشراف أفريقي ودولي في أحداث فض الاعتصام.
ولتفادي أخطاء وقعت فيها في المفاوضات المستمرة منذ قرابة الثلاثة أشهر مع المجلس العسكري من دون التوصل إلى نتيجة بعدما أعلن المجلس تراجعه عن الاتفاق السابق المعلن، اشترطت «قوى الحرية والتغيير» هذه المرة تسلمها لنسخة مكتوبة من مشروع الاتفاق الذي قال الوسيطان الأفريقي والإثيوبي إنهما ضمناه الملاحظات التي قدمها الطرفان المعنيان. كذلك اشترطت أن يكون هناك سقف زمني للمفاوضات واقترحت 72 ساعة لإنجاز الاتفاق خصوصاً في النقطة التي عرقلت كل الجهود السابقة وهي المتعلقة بتركيبة مجلس السيادة ورئاسته. هذا المدى الزمني المقصود منه منع المماطلات، وعدم تجاوز تاريخ انعقاد اجتماعات الاتحاد الأفريقي الأسبوع المقبل حتى يبقى الضغط على المجلس العسكري.
على الرغم من كل هذه المناورات الدبلوماسية من الأطراف الثلاثة، الوسيط الأفريقي الإثيوبي، و«قوى الحرية والتغيير»، والمجلس العسكري، إلا أن الحقيقة هي أن تحقيق اتفاق ثم الانتقال لتنفيذه، يبقى مسألة صعبة للغاية، لكي لا نقول بعيدة المنال. فالثقة انهارت تماماً بين الطرفين، والأجواء في الشارع باتت محتقنة منذ فض الاعتصام وما تبعه من أحداث وقمع قتل خلاله المزيد من شباب الثورة. لذلك اضطرت «قوى الحرية والتغيير» أمس إلى تبرير قرارها أمام الشارع المنتفض، مشيرة إلى أنها تقود معركة على مسارين؛ ثوري ودبلوماسي، وأن قبولها بالعودة إلى التفاوض المباشر كان من أجل تكامل المسارين لتحقيق أهداف الثورة في الانتقال إلى حكم مدني، ولكي لا تفقد المكاسب التي تحققت على الصعيد الدولي.
الكرة الآن في ملعب المجلس العسكري، لكي يؤكد الجدية في نقل السلطة وذلك في ظل الاتهامات بأنه يناور للالتفاف على «قوى الحرية والتغيير» وللاحتفاظ بالسلطة عاجلاً أو آجلاً. فإذا لم يحدث اتفاق قبل موعد اجتماعات الاتحاد الأفريقي، فإن المجلس سيواجه ضغوطاً وربما إجراءات أفريقية إضافية وعقوبات غربية. وعلى الصعيد الداخلي ستكون هناك مواكب 13 يوليو ثم العصيان والإضراب الشامل يوم 14 يوليو. صحيح أن المجلس العسكري يمسك بزمام السلطة الآن ولديه المال والسلاح، وتحت تصرفه الأجهزة الأمنية وكتائب الظل، وقوات الدعم السريع، إلا أن «قوى الحرية والتغيير» لديها أيضاً أورق قوية في صالحها. فهناك تصميم الشارع الذي أبدى عزماً قوياً على مواصلة المواكب والتصعيد، وهناك الوضع الدولي المؤيد لنقل السلطة إلى حكومة مدنية. أضف إلى ذلك أن «قوى الحرية والتغيير» بقيت متماسكة رغم بعض التباينات التي برزت أحياناً، مما أفشل المحاولات لتفكيكها باستمالة بعض أطرافها وعزل أخرى وإضعاف تجمع المهنيين بالاعتقالات. مدنية السلطة ليست مطلباً للمناورة، بل ضرورة حتمية تقتضيها المصلحة الوطنية. فالسودان يحتاج إلى تعاون المجتمع الدولي ووقوفه معه للخروج من العزلة والعقوبات التي واجهها في عهد الرئيس الساقط عمر البشير وحرمته من الحصول على القروض ومنح المساعدات الدولية وإعفاءات الديون، مما أحدث أزمة اقتصاداية طاحنة ومعاناة غير مسبوقة. ومن دون حكومة مدنية لن يحصل على شيء من ذلك وهو ما أوضحته القوى الدولية وعلى رأسها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بلا مواربة للأطراف المعنية.
الأمور تقف الآن أمام مفترق طرق حقيقي، فإما انفراج يؤدي إلى نقل السلطة وتسلم حكومة مدنية، أو تصعيد لم تعرفه هذه الثورة منذ بدايتها. إلى أين تميل الكفة؟ لا أحد يمكنه أن يجزم في هذه اللحظة وإن كانت هناك مؤشرات على أن الضغوط قد تدفع المجلس العسكري لتقديم تنازلات، لكن مدى نجاحها سيعتمد ما إذا كانت شكلية أو جوهرية.