وليد شقير
يمعن “حزب الله” في محاولته إخضاع التركيبة اللبنانية لمقتضيات المواجهات التي يخوضها على الصعيد الإقليمي إلى جانب القيادة الإيرانية، بوهم من قيادته بالقدرة على تطويع تلك التركيبة على المدى القريب والمتوسط، لصالح ما يعتبره انتصارات حتمية في مواجهة الولايات المتحدة الأميركية، وسائر الدول العربية التي تخوض صراعاً مع التوسع الإيراني في الإقليم.
لا يهدف تسجيل هذا الانطباع إلى تبسيط الربط المباشر لما جرى من مواجهة “أهلية” في منطقة قبرشمون والشحار الغربي في قضاء عاليه في جبل لبنان، بالصراع الدولي على ملف طهران النووي ودورها الإقليمي والضغوط عليها في شأن برنامج صواريخها الباليستية… كما أن هذا الانطباع لا يتوخى تضخيم أبعاد واقعة الأحد الماضي الدموية في إحدى مناطق جبل لبنان الجنوبي، ولا إلى تقزيم الصراع الدولي الدائر مع إيران وطموحاها الإقليمية، و”حشره” في موقعة قبرشمون.
لكن ما يحصل في لبنان من جهة “حزب الله”، يتصل حكما بحساباته الإقليمية. فـ”الحزب” يريد تمتين إمساكه بمفاصل السلطة السياسية بعدما نجح في إيصال حليفه العماد ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية، لضمان بقاء لبنان الساحة التي يمكّنه امتلاكه السلاح فيها، من استخدامها ورقة رابحة في يد “محور الممانعة” على المستوى الإقليمي. أدرك “الحزب” أن الرئاسة الأولى لا تكفي لاستمرار إمساكه بالقرار بتلك الساحة، وأن ضمان السيطرة على القرار في مرحلة تتطلب حفظ الاستقرار اللبناني بهدف خلق شبكة أمان ترعى تحوله ورقة احتياطية في المواجهة الكبرى الدائرة، يتطلب المزيد من التغييرات في موازين القوى لتأمين ثبات رجحان كفة حلفائه في التركيبة اللبنانية الحاكمة. أدرك “الحزب” كوريث للمخابرات السورية في إدارة الشأن اللبناني منذ عام 2005 ، أمراً آخر هو أن الهدنة أو المهادنة مع القيادة السنية تحت مظلة ربط النزاع بينه وبين رئيس الحكومة سعد الحريري، لا تكفي لضمان ثبات سيطرته على القرار اللبناني، على رغم رئاسة العماد عون. ولو لم يكن مشككاً بثبات تلك الهدنة مع الحريري، لما سعى إلى ابتداع موقع لحلفائه لسنة المباشرين. ويعرف “الحزب”، مثلما اختبر ذلك حكام دمشق، أن الممانع الرئيسي في وجه إخضاع التركيبة اللبنانية هو المكون الدرزي في ظل رجحان كفة الزعامة الجنبلاطية في داخله. فزعامة وليد جنبلاط شكلت منذ عام 2000 واجهة الاعتراض المسيحي والسني (رفيق الحريري) على الإخضاع السوري للنسيج اللبناني، ويمكن أن تشكل رافعة لتبلور أي اعتراض على إخضاع الحزب المعادلة اللبنانية لمقتضيات المواجهة الدولية الإقليمية، في المرحلة المقبلة.
يصعب فهم ما جرى في قبرشمون الأحد الماضي بمعزل عن تلاقي أهداف ثلاث قوى رئيسة يجمع بينها السعي إلى تضخيم حجم سياسيين داخل الطائفة الدرزية بعضهم وجوده مفتعل، وتحجيم زعامة جنبلاط، لخفض قدرته على الممانعة في وجه العبث بالتركيبة اللبنانية.
وليست المرة الأولى التي تتزامن فيها ظروف خارجية مع أخرى داخلية من أجل التغيير بالإكراه للمعادلة في الساحة الدرزية. لكن في كل مرة كان ذلك يقود إلى انفجار أهلي. والتاريخ اللبناني مليء بالمحطات.
تقاطعت أهداف النظام السوري و”حزب الله” مع جموح “التيار الوطني الحر” من أجل إضعاف جنبلاط، كل لهدفه. دمشق تريد الانتقام منه لدوره في انتفاضة 2005 ضدها، وتسعى لإخضاع الجبل الدرزي في لبنان لاعتقادها بأنه يساعدها على إخضاع دروز السويداء، من ضمن قاعدة أرساها عقل حكام دمشق بأن إظهار القوة في لبنان (عند كل الطوائف) يثبّت قوة النظام في بلاد الشام. و”حزب الله” لا يثق بموقف جنبلاط حيال مقتضيات الصراع الإقليمي على الصعيد اللبناني، على رغم أن الأخير كان السباق في الحوار معه لتحييد الخلاف حول سورية ودور إيران الإقليمي، عن الحاجة إلى إدارة محلية توافقية للأزمة اللبنانية لا سيما الاقتصادية. وقيادة “التيار الحر” واثقة بأن جنبلاط لا يؤمن بـ “مشروعية استمرارية” رئاسة العماد عون للجمهورية عبر تهيئة رئيسه جبران باسيل لخلافته.
يستحيل تغيير نهج النظام السوري لتجنب آثار سياسته على لبنان والجبل. فحاكم دمشق لا يمكن أن يأبه لانفجار أهلي فيهما طالما هو دمّر بلده وقتل مئات الآلاف من أبنائه وقسمه وحوله إلى ساحة صراع خارجي.
يبقى الفريقان اللبنانيان، والقاعدة الذهبية في استشراف موقفهما تتعلق بمدى إدراكهما بالفعل لا بالقول أن “بداية الحرب كلمة”. والزعامات اللبنانية التي تدرك خطر استنفار العصبيات وسبق أن انغمست في الحرب باتت تدرك كيف يحصل الانزلاق إليها، وخرجت منها تائبة. الوزير باسيل كان طفلاً عند اندلاعها، وما زال ضعيف الخبرة في تقدير آثار الكلمة، وكان يمكن لخطابه أن يكون معدوم التأثير، أشبه بمواقف مواطن تحركه غرائزه القروية، بضحالة فكرية فاضحة قل نظيرها، وتناقض في الأقوال، لولا أنه يمتلك ختم الرئاسة الأولى وتوقيعها، ويتصرف باسمها وبدعمها.
أما الأمين العام لـ “حزب الله” السيد حسن نصر الله، فلم يشترك في الحرب الأهلية ليعرف كيف تبدأ. ويبقى الجواب عما إذا كان اختباره الانفجار الأهلي في 7 أيار (مايو) 2008 كافياً لاستخلاص النتيجة. لكن الأهم أن التجربة أثبتت أنه مقابل احتراف الحزب الحسابات الخارجية والعسكرية في الصراع مع إسرائيل، لا يتقن الحسابات في شأن التركيبة اللبنانية، ولا يأخذ بنصائح حليفه الرئيس نبيه بري. ويستوي مع ذلك ما يكرره بعض قادته بمكابرة، عن أن همه ما يجري في الإقليم، ولا يأبه للتفاصيل اللبنانية!