أقلام يورابيا

دول الخليج العربي… ثور ينطح وليس بقرة حلوب

*د. مهيب صالحة

ثلاث نظريات تفسر جواهر العلاقات بين الدول، في الذهنية الرائجة، المؤامرة والتبعية والمصالح. الأولى تعتبر دفاعية تستخدم لتبرير فشل الدول، والثانية هجومية تستخدم للحط من قدرها، أما الثالثة فهي توافقية وتستخدم في مبادلة المنافع. ونظرية المؤامرة ونظرية التبعية منتجان من ضمن قائمة منتجات الدولة الأستبدادية الشمولية، سلطة ومؤسسات، يراد منهما طمس الوعي الجمعي السياسي، على مستوى علاقة الدولة بخوارجها، وعلى مستوى علاقتها بدواخلها. فلم يحدث قط أن فشلت دولة مستبدة، وهي في حالة دفاعية أو هجومية، في أية مشكلة أو قضية داخلية أو خارجية، وسلطتها متغولة على شعبها وأرضها، إلا وسلطت نظرية المؤامرة ونظرية التبعية على عقول الناس، العامة والخاصة والنخب، بقصد إثارة غرائزها التفكيرية، وتنمية وعي زائف، لاوعي جمعي، تجاه المشكلة أو القضية لتبرير فشل حلها أو معالجتها أو طريقة التعامل معها. فتارة تفشل التنمية بسبب مؤامرة خارجية، وتارة يفشل التحرير بسبب تبعية. وتارة يسقط نظام بسبب مؤامرة خارجية، وتارة دولة تتآمر لأنها تابعة وهكذا دواليك…

ولأن سياسة الدول تقوم على مصالح قد تتقاطع أو تتناقض، فإن الخلاص من ذهنية المؤامرة وذهنية التبعية اللتين تعكران صفو الذهن، يسمح للأفراد بالتبصر بالأمور   ومعرفة حقائقها، كما يساعد الحكومات والمؤسسات على دراسة المشكلات والقضايا دراسة علمية واستخلاص الأهداف والبدائل والحلول. وعلى أساس الدراسة العلمية ترسم السياسات وتعبأ الإمكانات.

إن الدول تدرك تمام الإدراك أن الذي يتحكم بالسياسة هو المصالح، وليس المؤامرات ولا الولاء والطاعة على أساس التبعية. وأن العلاقات بين الدول تقوم على تبادل المنافع. ولكن المصالح التي تحدد المنافع تختلف من دولة إلى أخرى، من حكومة إلى أخرى، ومن موقف أو حالة إلى أخرى…وكل من يبني سياسته أو موقفه أو تحليله، فرد أو جماعة، بذهنية المؤامرة والتبعية، يخلص إلى لا شيء من حيث فهم جواهر الأمور والوقوف على حقائقها.

وعلى فرض توجد مؤامرة وتبعية فإن أي تحليل أو نتيجة سينتهيان بالمصالح التي تحدد شكل ونوع وتوقيت مبادلة المنافع بالمنافع. فما الذي يجعل دولة كالولايات المتحدة الأمريكية، يبلغ ناتجها القومي حوالي عشرين تريليون دولار، ولها قواعد عسكرية في كل بقاع الأرض، وتحتل الفضاء الخارجي والفضاء الافتراضي، أن تلجأ لمؤامرة لتؤمن مصالحها مع دولة أخرى طالما تستطيع مبادلة المنافع معها، أو طالما تقدر بالقوة والمال والعلاقات بمفردها تأمين مصالحها، أو طالما بمقدورها من خلال تبادلية المنافع مع شبكة دولية واسعة إنشاء تحالف دولي علني ضدها؟؟ وهل هي بحاجة لتابعين بالولاء والطاعة العمياء، من دول ضعيفة أو قوية، فقيرة أو غنية، طالما بمقدورها تبادل المنافع معها على أساس المصالح؟؟

في المقابل، ما الذي يجعل دولة مثل الصين، ثاني اقتصاد في العالم وناتجها القومي يتجاوز اثني عشرة تريليون دولار، وعدد سكانها نحو مليار ونصف نسمة، وتمتلك قوة عسكرية ونووية هي الثالثة في العالم، ولديها أكبر احتياطي من العملات الصعبة، من أن تمنع دنو علاقاتها مع الولايات المتحدة الأمريكية من حافة الهاوية ـ عدا عن السقوط فيها ـ لولا أنها تتقن لعبة المصالح ومبادلة المنافع على أساسها، وتقديم أولوياتها الوطنية على أية أولويات أخرى. وما الذي يجعل روسيا وهي تمتلك ثاني قوة عسكرية ونووية، وناتجها القومي نحو تريليون ونصف دولار، التنسيق مع دول مثل إسرائيل أو تركيا أو إيران أو الولايات المتحدة في سورية.. لولا أنها محكومة بالمصالح وليس بالمؤامرة والتبعية؟

عندما تتوفر الإرادة الوطنية لا تستطيع قوة في العالم، مهما بلغ حجمها، أن تتآمر أو تفرض هيمنتها. والتاريخ يقدم دروساً غنية في هذا المضمار، إذ لم تتمكن لا الوصايات ولا الإنتدابات، رغم حضورها على الأرض بقوة، من كسر إرادة شعوب مثلتها حكومات وطنية تحت الانتداب أو الوصايا في التحرر. كما لم تستطع أنانية الدول العظمى أو الغنية من الحؤول دون ارتقاء دول صغيرة أو كبيرة، ضعيفة أو فقيرة، إلى مصاف الدول العظمى أو الغنية أو القوية. وهذه الدول لم تكن مسكونة لا بماضيها ولا تسيطر عليها ذهنية المؤامرة والتبعية كقدر محتوم لا مناص منه.

إن الدولة المستبدة، التي تتحكم فيها سلطة فرد أو عائلة، غالباً ما تكون مصالحها فئوية، لا وطنية، وهي مستعدة لمبادلة كل شيء من أجل منافعها الآنوية، الفردوية أو الفئوية. وغالباً تتحلق المصالح حول كرسي الحكم، وأعطياته وإقطاعاته، التي تتمظهر في أوجه الفساد المختلفة، وأخطرها فساد السياسات وإباحاتها المختلفة. وهنا لا نميز بين دولة استبدادية، جمهورية أو ملكية أو ثيوقراطية، لأن وجه الاختلاف فيما بينها، محدود للغاية، وتتفق في استراتيجيتها. إلا أن الجمهوريات بأنواعها التقدمية والاشتراكية والديمقراطية والثيوقراطية.. تلعب مصالح ولكنها تستخدم نظريتي المؤامرة والتبعية لتغطية السماوات بالقبوات، وتعمية شعوبها عن فشلها. بينما الملكيات تلعب مصالح على المكشوف، ولا تضطر للذهاب إلى حافة الهاوية أو السقوط فيها. وهذا الفارق يعود أساسه، برأيي، لما يمكن تسميته بأثر الأيديولوجيا.

إن دول الخليج العربي الغنية، والسعودية أكبرها من حيث السكان والمساحة وأغناها من حيث الموارد عدا عن كونها مركزاً للدين الإسلامي، كلها أنظمة ملكية، لم يفارقها الشعور بالخطر على عروشها وهيلمانها وثرواتها. خطر مزدوج، من منظومة أممية (شيوعية أو إسلامية) ومنظومة قومية، عربية أو أجنبية. وطالما لا تمتلك قوة عسكرية في مواجه الأخطار فإنها تستعمل قوة المال الاقتصادية والسياسية في بناء تحالفاتها وعلاقاتها الدولية، وفي بناء محسوبياتها وتوجهاتها وخططها داخل الدول، لرد الأخطار عنها.

منذ نشأتها، حسبت دول الخليج ألف حساب للخطر الشيوعي، الذي روجت له الولايات المتحدة الأمريكية، وسوقته سياسات الاتحاد السوفيتي والأحزاب الشيوعية الأيديولوجية، فصار البعبع الذي تخشاه دول الخليج العربي. وقد نما هذا البعبع وتغول في الذهنية الخليجية على أثر تعاون القومية العربية، الناصرية والبعثية، مع الاتحاد السوفيتي في مواجهة ما كانوا يسمونه بالرجعية العربية، وكيل شتى التهم لها، من بيعها فلسطين حتى تآمرها على تقدميتهم واشتراكيتهم، وتبعيتها للامبريالية والاستعمار. وكان يشتد هذا الخطر، وتشتد معه معاناة دول الخليج، كلما يشتد الخطاب المعادي لها شعبوياً وغوغائياً.

لا شك أن المال السياسي الخليجي قد لعب دوراً كبيراً ومهماً في مواجهة هذا الخطر، وتحطيم صورة البعبع في الذهنية الخليجية. فلا الناصرية كانت جديرة بالحياة في مصر بعد وفاة زعيمها جمال عبد الناصر، ولا البعثية صمدت في العراق بعد إغراقه بالمال السياسي الخليجي في أتون حرب دامت ثماني سنوات مع إيران، خرج الطرفان المتحاربان منها مهزومان، وكلاهما كان يشكل تهديداً وخطراً على دول الخليج العربي. وقد ترجم هذا الخطر بعد انتهاء الحرب، عراقياً، باجتياح قوات صدام حسين الكويت وإعلانها المحافظة العراقية التاسعة عشر. وإيرانياً بسياسة تصدير الثورة والهلال الشيعي، التي استثمرتها إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية لتأجيج المشاعر العدائية بين إيران ودول الخليج العربي على خلفية صراع سني ـ شيعي يتغذى على أموال الطرفين، ودماء وآمال شعوب المنطقة.

ومع انطلاقة الربيع العربي، استشعرت الملكيات العربية الخطر القادم من ثورة الشعوب السلمية في الجمهوريات العربية، وبذلت كل ما بوسعها بالمال السياسي لتفشيل مشروعها الوطني الديمقراطي بدعمها اللامحدود للإسلام السياسي، الذي حرفها عن مساراتها وعسكرها وطيفها. ولكن ما لبثت هذه الملكيات أن انقسمت بين محور السعودية الذي رفع الغطاء عن الإسلام السياسي، الذي لو نجح بالسيطرة التامة على دول الربيع العربي لغدا الأكثر خطورة عليها. ومحور قطر المدعوم من تركيا الذي يحتضن الإسلام السياسي ويقدم له كل أشكال الدعم، ولايزال يراهن على نجاحه حيثما فشل وعلى عودته حيثما سقط. ويبدو أن محور السعودية أصبح على قناعة من أنه أخطأ في دعم الربيع العربي، وأنه بات يفضل عودة الأمور في دوله إلى ما قبل عام 2011، أي عودة العسكر إلى الحكم. فهو دعم انقلاب العسكر في مصر على الإخوان المسلمين، ويدعم قوات الجنرال حفتر في ليبيا، ويدعم عبد الهادي منصور في اليمن، ويحاول اختراق ثورتي الجزائر والسودان بدعم مجالس عسكرية هناك في المرحلة الانتقالية، ويدعم فكرة إعادة تأهيل النظام في سورية.

إذن، دول الخليج ليست بقرة حلوب ـ كما يظن ويشاع ـ ولا تصرف أموالها سدى أو على سبيل الهبا أو الصدقة، إنما هي ثور ينطح، يقتل ويجرح ويداوي، في سبيل المصالح وتبادل المنافع، والتي تتحكم بعلاقاتها مع الآخر وبخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، وتتحكم بتعاملاتها مع قضايا المنطقة. فسابقاً ساهمت بالقضاء على الشيوعية السوفيتية التي تعتبرها العدو الأول، ودفعت الكثير لحليفها الأمريكي في سبيل ذلك قبل احتلال الاتحاد السوفيتي لأفغانستان وأثنائه. والآن تساهم في القضاء على عدوها الباقي من خلال تحالفها مع الولايات المتحدة الأمريكية ودفعها إلى بذل المزيد من الضغوط على إيران لعزلها أكثر فأكثر، وإغراقها في وحول المنطقة من سورية إلى العراق إلى اليمن ولبنان، واضطرار طهران الذهاب أكثر فأكثر في عسكرة اقتصادها وإفساده، مما سيأخذها إلى نهايتها المحتومة كما كانت نهاية الاتحاد السوفيتي..

إن من أعظم المصائب، في السياسة، التفكير بالآني، بينما الدول تبني سياساتها على الاستراتيجي. والاستراتيجي بالنسبة لدول الخليج استدامة الأسر المالكة والحاكمة، والاستراتيجي بالنسبة لأمريكا استدامة تربعها على عرش العالم، والاستراتيجيتان تلتقيان في دائرة المال باعتباره أحد ركني القوة، في ظل العولمة، المال والقوة العسكرية.

إن سياسة المصالح تطبخ على نار هادئة والحرب استمرار للسياسة.. والولايات المتحدة الأمريكية تتوخى السياسة وتهدد بالحرب، وبيدها دائماً عصا وجزرة. عصا قوتها العسكرية، وجزرة المال الخليجي. ولا أظن أن إيران، التي تستعمل أيضاً المال السياسي والقوة العسكرية في تنفيذ مشروعها القومي الثيوقراطي، وتهدد به دول الخليج العربي ودول أخرى في الشرق الأوسط، راغبة بحرب طالما لن تكون في صالحها ـ مثلما لن تكون في مصلحة المنطقة كلها ـ لذلك من المرجح أن يذهب الجميع إلى مفاوضات المصالح وتبادل المنافع، لأنها وحدها، تجنب الدول الغنية على جانبي الخليج العربي ويلات الحرب ومآسيها.

*كاتب وأكاديمي سوري وعميد سابق لكلية إدارة الأعمال

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق