عبدالوهاب بدرخان
مسافة شاسعة تفصل بين ما يقوله المرشد والرئيس في إيران. الأول عنده القرار السياسي والأمر العسكري، والثاني ينفّذ سياسياً مع هامش ضيّق للمناورة. ثمة مسافة أيضاً بين ما يعلنه الرئيس الأميركي وما يسمعه من اركان إدارته أو يناقشه معهم. له الكلمة الأخيرة حتى لو عبّر مستشار الأمن القومي ووزير الخارجية عن آراء أكثر تحفّظاً أو تشدّداً، فالكلام ليس ممنوعاً وتوزيع الأدوار أيضاً، لذا اختار سيناتوراً محابياً لإيران كي يمهّد للتفاوض معها. في الأساس، لا يريد دونالد ترامب الحرب، لكنه اختار عصا العقوبات لجلب إيران إلى الطاولة، مفترِضاً أنها لن تستطيع تجاهل العقبات والقيود على اقتصادها وماليتها. هذا تخطيط براغماتي محكم وقد زيد إحكاماً بحشد قوة عسكرية محدودة لكن ذات فاعلية بهدف “ردع” نزعة إيران إلى “الجهادية” ضد ما تعتبره ارهاباً أو حرباً اقتصادية عليها. الأكيد أن حسن روحاني يريد التفاوض لا الحرب، وهو كان مهندس التوصّل إلى الاتفاق النووي، إلا أن الانسحاب الأميركي من هذا الاتفاق قرّبه أكثر إلى تشدّد علي خامنئي الذي شكّك دائماً بالاتفاق وبالتزامه أميركياً.
غير أن خامنئي وروحاني يعرفان أن المطالب الأميركية ليست جديدة ولا مفتعلة، بل إنها الجانب الذي منع المرشد التطرّق إليه خلال المفاوضات بين الوزيرين جون كيري ومحمد جواد ظريف، ولكي يدعم رفضه عمد المرشد إلى إضافة شرط تقني إضافي بعدما أصبح الاتفاق جاهزاً. هنا كان على إدارة باراك أوباما أن تقرّر، فقبلت بتأجيل الملفات الأخرى (البرنامج الصاروخي، السياسات الإقليمية، والعلاقات الثنائية)، ولتدعم الحصول على الاتفاق بلا تأخير وجّهت إنذاراً إلى خامنئي مفاده، بحسب مصادر موثوق بها، أنه قد يرى سريعاً رايات “جبهة النُصرة” في دمشق إذا لم يتخلَّ عن شرطه الأخير، وكان ذلك بعد إخراج النظام من إدلب. غداة التوقيع على الاتفاق راح أوباما وأركان ادارته يشدّدون على أن ما كسبته إيران سياسياً ومعنوياً سيشجّعها على “تغيير سلوكها” بتخصيص أموال للتنمية في الداخل والبحث عن تسويات متوازنة في الخارج، ولم يستبعدوا “تطبيعاً” مع طهران. سرعان ما تبيّن أن هذه التقديرات كانت أوهاماً، فإهمال الداخل قاد إلى الانتفاضات الشعبية وإلى قمعها، والتحرّر من العقوبات رفع منسوب التغوّل الإيراني اقليمياً، والتطبيع تسارعت وتيرته مع أوروبا أما مع أميركا فزاد ابتعاداً.
وهكذا فقد صنعت طهران عملياً سياسة ترامب، وإن بشكل غير مباشر، وأي رئيس جمهوري آخر كان سيتّبع التشدّد ولو اختلفت خططه. لا يمكن القول أن طهران لم تفطن إلى “الخطأ” السياسي لأنها تعمّدته وأرادته، أو قل إنه في صلب عقيدة النظام ولا يمكن كسره. فـ “الجمهورية الإسلامية” ألغت “الشيطان الأكبر” من قاموسها، وذهبت التحليلات المعمّقة إلى أن أي مراجعة للعلاقة مع أميركا مؤجّلة إلى ما بعد خامنئي. بل تعتقد طهران أن الروابط بينها بين روسيا والصين والهند وجنوب أفريقيا (مجموعة “بريكس”) لم تمكّنها من توسيع نفوذها فحسب، بل فرضتها كـ “قطب” مؤسّس لـ “عالم متعدّد الأقطاب” مناهض للولايات المتحدة، حتى أنها الوحيدة بين الدول الأربع التي استطاعت بناء قوّتها ونفوذها وهي في عداء تامٍّ مع أميركا، بل أرغمت أميركا أحياناً على التعامل معها، كما في العراق.
بالنسبة إلى التفاوض مع واشنطن، تعاني طهران اليوم من عقدة الموروث، وهي العقدة نفسها التي كبّلت أيدي عدد من الإدارات الأميركية منذ عملية “رهائن السفارة” (1979) ومنعتها من مقاربة جدّية لـ “التطبيع” مع طهران على رغم اتصالات بين الطرفين، متقطّعة وبعيدة عن الأضواء، خلال عهدي هاشمي رفسنجاني ومحمد خاتمي، ونوقش فيها الكثير من الملفات الحسّاسة والمتعلّقة تحديداً بالأمن الاقليمي والسياسات المرتبطة به. اعتقد أوباما أنه كسر تلك العقدة، سواء بديبلوماسية الرسائل العلنية مع خامنئي أو بما حتى بغباء تغاضيه عن عدوانية إيران في العراق وسورية واليمن ليحصل على الاتفاق النووي ما بعده. لكن المرشد رأى أن الممكن الوحيد مع أميركا هو انتزاع تنازلات منها بلا مقابل. لذلك استمرّت الاتصالات في عهد روحاني، خصوصاً بعد الاتفاق النووي، ولم تتوصّل إلى توافقات، وكان الإيرانيون يروّجون أن “العقدة” الدائمة مع الجانب الأميركي هي “التطبيع” مع إسرائيل.
الأزمة الراهنة تمتحن إيران في خيار استقلاليتها، أو بالأحرى تفلّتها وانفلاتها، فهي ظنّت ولا تزال تظن أن أميركا لاحقتها وحشدت الدول الكبرى لمساءلتها في الشأن النووي فقط، لأنه مرتبط بـ “أمن إسرائيل”، لذلك فاوضت ووقّعت على اتفاق، بل اعتبرت أنها بذلك أقفلت هذا الملف، وهي لا تمانع حالياً فتح الاتفاق ومعاودة التفاوض عليه، لكن بشروط: رفع العقوبات وعودة أميركا إلى الاتفاق وعدم التطرّق إلى ملفات أخرى. ما يشجّعها على ذلك أن روسيا والصين لم تسائلاها يوماً في شأن سياساتها وصواريخها، وحتى بريطانيا وفرنسا وألمانيا لم تفعل عندما تسابقت لعقد صفقات معها مع أنها تشاطر أميركا مآخذها على “السلوك” الإيراني. غير أن طهران لا تجد نفسها قادرة هذه المرّة على فرض ما يمكن وما يتعذّر التفاوض عليه. صحيح أنها بنت قوة عسكرية وتستطيع أن تؤذي لكنها لم تكن تتوقع في السابق أن تدرك النيران أراضيها أو أن يكون أتباعها عرضة للتضييق والتهديد كما هم الآن.
كما أن إيران لم تنظر إلى متطلبات الداخل فإنها لم تنظر أيضاً إلى نتائج سياساتها في الإقليم، حيث قوّضت دولاً واقتصادات وزرعت صراعات مذهبية. تتصرّف كما لو أنها كرّست ما فعلته في انتظار اللحظة الراهنة، وإذا تمكّنت أخيراً من جني ثمار العسكرة و”تصدير الثورة” ونيل جائزة “النفوذ” المعترف به فإن كل عدوانيّتها ومغامراتها ستبدو عندئذ مفهومة ومبرّرة لدى شعبها وأتباعها. كان يمكن أن يستمرّ خيار “الاستقلالية” ويتكامل لو لم تتضخّم أطماعها لتتماهى مع أوهامها، وصولاً إلى تحدّي الولايات المتحدة واستدراجها إلى مواجهة. كان الأوروبيون حاوروها قبل أن ينسحب ترامب من الاتفاق النووي، وفتحوا لها أبواباً لتجنّب الأزمة قبل حدوثها لكن الغطرسة أعمتها، وقد لاحظوا أنها تناور الآن بطرح بعض ما اقترحوه عليها لكن بعد فوات الأوان. قد لا تكون إيران أخطأت في الاعتقاد بأن كل ما يراد منها أن لا تكون “نووية”، لكنها أخطأت في استنتاج أن تمدّدها في الإقليم يمكن أن يكون مقبولاً. فالمجتمع الدولي ينظر إليها نظرته إلى “المجموعات اللا دول” التي أصبحت خطراً عالمياً، وهي لم تسعَ إلى تغيير هذه الانطباع النمطي عنها، ففيما كانت ميليشياتها على صورتها ومثالها اتاحت الأزمة رؤيتها تتصرّف كميليشياتها لكن بقدرات دولة.
لكي تحقّق طهران أهدافها لعلّها تراهن على ترامب، وعلى إغراقه في تفاوض يقوده إلى مقايضة امتيازات بزنسية لأميركا بنفوذ إقليمي لإيران. هذا رهان مقلق في ضوء موافقة الرئيس الأميركي على دخول راند بول دائرة التفاوض، ولعلّه اختاره لأنه يمكن أن يوحي بالثقة لطهران، عكس جون بولتون ومايك بومبيو. فالإيرانيون يعرفون أن هذا السيناتور دعم الاتفاق النووي وعارض العقوبات الجديدة كما حذّر من التدخل العسكري ومن انزلاقه إلى حرب، بل هو أبرز زعماء “حزب الشاي” الداعين إلى الانسحاب من سورية وكوريا الجنوبية وأفغانستان بمعزل عن العواقب، أي أنه متناغم موضوعياً مع إيران التي تثمّن خصوصاً انتقاداته للسعودية وهوسه الدائم بمهاجمتها وتولّيه الدفاع عن التشريعات الهادفة إلى منع بيع أسلحة لها. كل هذه الحمولة تجعل من إقحام راند بول مؤشّراً إلى أن ترامب يخشى فشل المراهنة على التفاوض، وتوجّهاً ولو تجريبياً لتغيير مقاربة الادارة واجتذاب إيران. فلا أحد يتوقّع أن يخرج السيناتور شروط بومبيو الـ 12 للتحادث مع محمد جواد ظريف في شأنها.
ينبغي ألّا يغفل أحدٌ أن التفاوض كخيار استراتيجي يعني عملياً السعي إلى اتفاق كهدف استراتيجي، مهما طال الوقت أو كثرت الصعوبات. إذا بادر ترامب إلى إجراءات تخفيفية للعقوبات وتجاوز المرشد عقدته بالموافقة على دخول مفاوضات، فهذا يفترض بديهياً أن الاتفاق سيرضي الطرفين في نهاية المطاف. لكن، هل يرضي العرب المتضرّرين سابقاً وحاضراً (وربما مستقبلاً في هذه الحال) من سياسات إيران؟