الحبيب الأسود
الجنازة المهيبة التي نظمها التونسيون لتوديع رئيسهم الراحل الباجي قائد السبسي إلى مثواه الأخير، كانت كأفضل ما يتمنى أي زعيم سياسي أن يودع به، وربما كانت ما تمناه أو حتى أكثر مما تمناه الرئيس الراحل نفسه، حيث كانت الوداع الأخير بمثابة تتويج حقيقي لمسيرة اسثنائية لرجل خاض معترك العمل الرسمي منذ استقلال بلاده، وتولى مختلف الوظائف في هياكل الدولة من المدير إلى السفير فالوزير والرئيس. وشغل وزارات السيادة: الداخلية والدفاع والخارجية، والرئاسات الثلاث: رئاسة البرلمان، ورئاسة الحكومة، ورئاسة الدولة. وأثبت حضوره في العهود الثلاثة: عهد بورقيبة وعهد بن علي وعهد الثورة. وعرف في ثلاث مناسبات كيف يخرج بشرف من المأزق. فعل ذلك في أوائل سبعينات الماضي عندما تمرد على حزبه، الحزب الاشتراكي الدستوري داعيا إلى الإصلاح، ما تسبب في تجميد عضويته في 1971 ثم طرده من الحزب في 1974، ليكون أحد أبرز المدافعين عن الديمقراطية في تلك المرحلة. وفي العام 1992 انسحب من نظام بن علي بعد أن كان رئيسا للبرلمان، وعاد إلى مكتبه لممارسة مهنة المحاماة.
وكان خروجه الثالث الأكثر إثارة، وبشكل غير منتظر، حيث وبينما كان يتعرض لهجمة غير مسبوقة من قبل معارضيه، وفي مقدمتهم من كان وراء بروزهم سياسيا عبر حزب نداء تونس، وبينما كان يدعو البعض إلى عزله و إقالته أو عرضه على النائب العام للتثبت من حالته الصحية. وفي الوقت الذي كان الكثيرون يتحدثون عن احتجازه في قصر قرطاج من قبل أسرته وبعض المقربين، ويرجّحون خروجه من الباب الضيق، فاجأهم بوفاة مثلت ثأرا له ولتاريخه وتجربته، جعلته يستعيد بريقه في قلوب مواطنيه، ويرفع علامة النصر، ويحظى بإشادة وطنية وعربية ودولية، وبجنازة تاريخية شارك فيها التونسيون البسطاء والفقراء مدفوعين بعاطفة إنسانية غير ملوثة بحسابات الساسة والسياسة.
أدرك التونسيون يوم وفاة قائد السبسي أنهم خسروا أبا كان بمثابة خيمة لهم، وحتى وإن اختلفوا معه فإنهم يدركون أنه كان صادقا في وطنيته، فهو أحد القلائل المتبقين من جيل الرواد، جيل بناة الدولة الوطنية ومن دخلوا معترك الحكم وهم في بواكير الشباب ليكبروا مع تونس المستقلة ويعايشوا مختلف مراحلها، وعندما واجهت البلاد تحديات كبرى بعد الإطاحة بالنظام السابق، تحمّل مسؤولية رئاسة الحكومة في ظرف عصيب، وأمّن انتخابات المجلس التأسيسي ثم سلم كرسيه في قصر القصبة لرئيس حكومة جديد من حزب إخواني فائز، وهو يعلم أن هناك خللا سياسيا حصل وأن تونس تنادي أبناءها لإحداث التوازن المطلوب، فبادر بتأسيس حرمة نداء تونس، وخاض معركة بعض جوانبها معلن وبعضها الآخر غير معلن لإلغاء العزل السياسي، وقاد المعارضة ضد حكم الترويكا الذي يسير بالبلاد إلى وجهة التطرف والشمولية والانقلاب على المجتمع وعلى مكاسب دولة الاستقلال، وخاض انتخابات 2014 وفاز فيها برئاسة البلاد وفاز حزبه بالانتخابات التشريعية.
خلال السنوات الخمس الماضية، استعادت الدولة التونسية جانبا مهما من بريقها الإقليمي والدولي عبر دبلوماسية هادئة تحاشت الكثير من المصبات الشائكة، ونجحت بنسبة مهمة في التصدي للإرهاب رغم أن منابعه الفكرية لا تزال موجودة بل وتغلغلت حتى في مؤسسات الحكم، ورغم الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، إلا أن الأغلبية الساحقة من الشعب أثبتت أنها لا تزال بالدولة، وعندما توفي قائد السبسي تأكد هذا الإثبات، فالرئيس الراحل برمزيته من حيث المنصب والمرجعية والتاريخ، كشف وهو في طريقه إلى مثواه الأخير، أن الخصوصية التونسية قادرة على الصمود، حتى وإن تعرضت لبعض الاختراقات، وأن ما يسميها البعض بالدولة العميقة عرفت كيف تحفظ المجتمع من أي تهديدات قد تصيب نسيجه المترابط، في حين أدرك أصحاب الأيديولوجيات المستوردة والأجندات العابرة للحدود، أنهم لن يستطيعوا تغيير الواقع الذي رسخته دولة الاستقلال المنحدرة بدورها من صلب تاريخ إصلاحي ثري، أعطى دائما لتونس زخما خاصا بها، وأفردها به عن محيطها.
جاءت وفاة قائد السبسي لتنصف الرجل الذي لو مات بعد تسليمه الحكم لمن ستفرزه الانتخابات القادمة، لكان رحيله عاديا كأي مواطن آخر، ولتطرح الكثير من الأسئلة على بعض من اعتقدوا أنهم قادرون على تغيير المجتمع وتوجيهه الى ثقافة أو أيديولوجيا الجماعة أو الحزب أو الحركة، ولتضع أمامهم الحقيقة التي يحاولون تجاهلها والتغاضي عنها، وهي أن كسب حب التونسيين يحتاج إلى أن يكون الباحث عنه تونسيا بكل تلك التلقائية التي كان عليها الرئيس الراحل، وهي تلقائية لا تخلو من حكمة الانتماء التي كان عليها من قبله بورقيبة، مع تفتح على العالم ليس بثقافة موسوعية فقط، وإنما بالتفاعل الإيجابي مع مكاسب الإنسانية ككل، ثم بالصدق في التعامل بوضوح مع الشعب غير قابل للتخفي وراء أجندات التمكين والسيطرة والتموقع في محاور هدفها إلغاء الدولة الوطنية والطعن في رموزها وتعريض سيادتها للبيع في أسواق الأيديولوجيات الشمولية ولو كان ذلك تحت شعارات ديمقراطية يعتمدها البعض سلّما للوصول إلى الحكم ثم سحبه حتى لا يستعمله أحد من بعدهم.
رحم الله قائد السبسي، رحل كما تمنى، وودعه شعبه بكثير من الحب، ووري الثرى في مشهد سرّ الصديق وغاض أعداءه المتأدلجين، وترك وراءه حملا ثقيلا لمن سيليه في حكم البلاد، وأعطى درسا حتى وهو في نعشه إلى مثواه الأخير، لمن حاول أن يعطيهم ذلك الدرس وهو حي، وحظي بمكانة كبرى في مماته كما كان في حياته، رجلا مؤثرا، فاعلا، وصاحب مواقف، محبا للحياة ولبلاده، صادقا مرحا تلقائيا وحكيما، ووفيا لقناعاته، فكان بذلك الرجل الذي أنصفته لحظة مماته بأن أعادت الاعتبار لتجربة حياته.