أقلام مختارة

التقرب إلى الله ليس بالمباهاة وبكثرة فتاوى الحج

سعد القرش

سعد القرش

التقرب إلى الله ليس بالمباهاة، ولا ينقص مصر مصلون ومساجد ومعاهد دينية وخطب وميكروفونات لا ينافسها في التكاثر إلا الفساد ومخالفة الشرع والقانون.

ليست كثرة عدد الرسل إلى قوم امتيازا لهم، هي بشكل ما إدانة، دليل عناد واستعصاء على الهداية. وتعدد الراغبين في رعاية شخص يعني أنه يتيم يستحق الشفقة. وتأكيد دولة لضيف أو لاجئ أنها وطنه الثاني قد يفيد بضياع وطنه. فبماذا نفسر زيادة فتاوى الحج إلى نحو 200 فتوى في الموقع الفيسبوكي لدار الإفتاء المصرية، فضلا عن فتاوى في الموقع الإلكتروني للدار؟ هل يُفهم من سيل الفتاوى أن الدين عُسر، وأن الحج فريضة معقدة يلزمها كل هذه الفتاوى؟

هل يرتبط الطلب على الفتوى بوفرة عرض يتمثل في زيادة الوعاظ من الموظفين خريجي الأزهر وغيرهم من صنائع الفضائيات والإعلانات؟ وما علاقة كثرة فتاوى الحج لدار الإفتاء المصرية بتدين شكلي يزيد كلما تردّى السلوك الأخلاقي في الشارع، وكثرت جرائم الاعتداء على المال العام؟ السؤال الذي لا يخص الحج أو رجال الدين، ويجب أن يناقشه علماء النفس والاجتماع: لماذا لا يؤثر الأداء المتكرر للحج والعمرة، بحرص مصري لا نظير له في العالم الإسلامي، في الأخلاق وجعل الأداء الوظيفي يتفق مع الشرع والقانون؟

في مصر يوجد نحو 150 ألف مسجد، و160 ألف خطيب تابع لوزارة الأوقاف، والآلاف من زوايا صغيرة يستبد بميكروفوناتها من لا تستقيم ألسنتهم بقراءة آية قرآنية. وفي مصر أيضا ضبطت الأجهزة، في شهر واحد، خمسة آلاف قضية تهرب ضريبي بإجمالي تعاملات ثمانية مليارات جنيه. وفي الشهر نفسه ضبطت 55 قضية فساد وظيفي (رشوة وتسهيل استيلاء على المال العام وغسل أموال) بنحو 200 مليون جنيه وثلاثة ملايين يورو ودولار، (صحيفة الأهرام 16 يوليو 2019) فكم عدد المشتركين في ارتكاب هذه الجرائم؟ وهل هم استثناء من رواد مئات الآلاف من المساجد؟

وفي اليوم التالي نشرت صحيفة الأخبار عن مضبوطات تشمل أقراصا مخدرة وسجائر مقلدة وألعابا نارية، في حاويات بميناء الدخيلة بالإسكندرية، قيمتها 100 مليون جنيه. كما تم القبض على محترفة لبيع الأطفال عبر الفيسبوك، بعد ضبطها ببيع طفل ثمنه 45 ألف جنيه، وقبل عامين (2017) باعت طفلا لزوجين مقابل 12 ألف جنيه. وكل يوم تُرتكب جرائم قتل لأتفه الأسباب، فأين يذهب تأثير الخطب والشعائر والفرائض؟ ألا تشغل هذه المفارقة علماء النفس للإجابة عن سؤال: أين الخلل؟

الزلزال النفسي الذي سببته هزيمة 1967 دفع الناس إلى البحث عن يقين ديني. يقدم الكاتب عبدالخالق فاروق إحصاء بعدد الجمعيات الأهلية المصرية، وكانت عام 1960 نحو 3494 منها 579 جمعية إسلامية (بنسبة 16.6 بالمئة) و427 جمعية أهلية مسيحية (بنسبة 12.2 بالمئة)، أي أن 28 بالمئة من الجمعيات الأهلية دينية أو ذات غطاء ديني. وحدد المشرّع عام 1964 حركتها بممارسة 13 نشاطا في مجالات “الخدمات الثقافية والعلمية والمهنية”.

ولكن التغير السياسي بداية من عام 1971، وميل أنور السادات إلى “دعم نشاط الجماعات الدينية الإسلامية… أديا إلى غض الدولة، ممثلة في وزارتي الشؤون الاجتماعية والداخلية، الطرف عن الأنشطة ذات الطبيعة الدينية لهذه الجمعيات”. وفي عام 1970 كان مصرحا لنحو 36 جمعية بتنظيم رحلات الحج والعمرة، وقفز هذا العدد إلى عشرة أضعافه بنهاية عام 2007، وأصبح 365 جمعية. ولم يكن الحجاج المصريون، حتى عام 1974، الأكثر عددا، مقارنة بحجاج إندونيسيا مثلا. وخلال ثلاثة مواسم، منذ «تغريق الجنيه المصري» في نوفمبر 2016، تضاعفت التكاليف للمعتمرين والحجيج المصريين فبلغت في هذه المواسم الثلاثة 7.5 مليار دولار.

كلما ارتفعت تكاليف الحج والعمرة زادت اللهفة عليهما، حتى لمن سبق لهم أداؤهما. والحج هذا العام (2019) يكلف المصري في فندق خمس نجوم 105 آلاف جنيه، وفي فندق 4 نجوم 90 ألفا، وفي فنادق 3 نجوم  يتراوحان بين 80 و70 ألف جنيه. وقبل سنوات سألت زميل دراسة من أيام الثانوية اختار إقامة قريبة جدا من الحرم، مرتفعة الكلفة: لماذا لم يقم في سكنى أبعد، والأجر على قدر المشقة؟ فقال إن القرب يستأهل الثمن المدفوع؛ لأن “المحصول من الصلوات والأدعية” يكون كبيرا لبقائه وقتا أطول في الحرم. واندهشت أن يكون التعامل مع الله بالورقة والقلم، “على النوتة” كما نقول في مصر.

ويحرص الكثيرون في وسائل المواصلات، وهم مشغولون بالهواتف المحمولة، على التسبيح بمسابح رقمية صنعها بوذي في الصين، وكل فترة ينظرون إلى العدّاد، للتوقف عند رقم 33، والانتقال إلى تسبيح آخر، وكأنهم لو استخدموا أصابعهم، وأخطأوا وسبّحوا 39 مرة يبطل الأجر.

التقرب إلى الله ليس بالمباهاة، «رب أشعث أغبر.. لو أقسم على الله لأبره». ولا ينقص مصر مصلون ومساجد ومعاهد دينية وخطب وميكروفونات لا ينافسها في التكاثر إلا الفساد ومخالفة الشرع والقانون، ولكن الناس يحرصون على شكليات في الفرائض والنوافل كأنها أحد أركان الإسلام، ناسين أن الحج نفسه ليس من أركان المسلم الذي يصح إسلامه إذا لم يستطع إليه سبيلا.

ومصر تنقصها مستشفيات ومدارس، وحدث أن تبرع لاعب الكرة محمد صلاح بإنشاء معهد ديني في قريته. وأشرف الأزهر على التنفيذ، وقبل اكتمال البناء رأى الأهالي أن القرية تحتاج إلى مدرسة؛ لتخفيف الكثافة عن مدرسة وحيدة يتكدس في الفصل الواحد بها 65 تلميذا، وفي القرية أربعة معاهد أزهرية أغلق أحدها لعدم وجود تلاميذ، وقدموا طلبا إلى الأزهر لتحويل المعهد إلى مدرسة تابعة لوزارة التعليم، ولكن التعنت البيروقراطي لدى قيادات الأزهر رفض الطلب، حتى لو أغلق المعهد، ولحق بزميله الخالي من التلاميذ. المهم الكثرة والمفاخرة بعدد المعاهد، وللمدارس والتعليم والتلاميذ رب رحيم.

يحرص على الحج نوعان بينهما بُعْد المشرقين: أثرياء لا تهمهم الكلفة، ويتمنون أن يغسل الحج خطاياهم في حق الناس وهذا مستحيل؛ ما لم تردّ المظالم وأولها نهب المال العام. وفقراء لا أمل لهم في حياة مريحة، ويستدينون لكي يؤدوا الفريضة أو يؤدونها بالتقسيط، ويؤجلون السعادة إلى الآخرة، وتؤرق هؤلاء أسئلة صعبة يوجهونها إلى دار الإفتاء: هل يصح الحج لعجوز بغير محرم؟ وما حكم من قضم ظفرا من أظافره بغير محرم؟ وما الحكم إذا احتلم المحرم؟

طيبون مشغولون بصحة الحج واكتمال شروطه، وأما الأثرياء فيسألون عن قبول الحج، وهو غيب يعلمه الله، ويسأل أحدهم سؤالا مزدوجا غريبا يؤكد لا جدوى الحج، ما حكم الحج من مال الحرام؟ وهل الحج من المال الحرام يسقط فريضة الحج؟ وبمثل هذا السؤال يجب أن ينتهي الكلام.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق