أقلام مختارة

فصل جديد من التنكيل في ‘سودان الإخوان المسلمين’

بابكر فيصل بابكر

امتلأت وسائل التواصل الاجتماعي الأسبوع الماضي بصور ومقاطع فيديو لجنود يرتدون زي المليشيا الحكومية المعروفة باسم “قوات الدعم السريع” وهم يقومون بحلق شعر رؤوس بعض الشباب بصورة بشعة استخدموا خلال السكاكين الحادة مما أدى إلى إحداث جروح وإسالة دماء من رؤوس هؤلاء المراهقين.

أثارت تصرفات الجنود موجة كبيرة من الاستهجان، على اعتبار أن انتهاك الدولة للحريات الفردية، بهذه الصورة السافرة، يمثل امتهانا كبيرا لكرامة المواطن، الذي لم يعد يعاني فقط من فقدان حريته السياسية بل بات محروما حتى من أبسط حقوقه الشخصية المتمثلة في اختيار اللباس الذي يلائمه وتصفيفة الشعر التي تروق له.

إثر الاستياء الذي عم أحياء العاصمة الخرطوم ومناطقها، خرج الناطق الرسمي باسم المليشيا الحكومية لينفي قيام رجاله بهذه الحملة الجائرة. وادعى أن عصابات إجرامية انتحلت صفة قواته. وهذا نفي ساذج لم يجد أذنا صاغية من أية جهة، لاسيما بعد أن تداول الناس صورا يظهر فيها قادة معروفون في المليشيا وهم يقومون بحلاقة رؤوس الشباب بصورة بشعة!

حلق شعر الشباب بهذه الطريقة المذلة ليس أمرا مستغربا، بل هو مجرد حلقة جديدة ضمن حلقات امتهان كرامة الإنسان السوداني التي ابتدعتها واتبعتها حكومة الإخوان المسلمين منذ أن وصلت إلى الحكم عبر الانقلاب العسكري في حزيران/يونيو 1989.

ففي العام 1991 أصدرت حكومة الإخوان المسلمين قانونها الجنائي الذي ضم عددا من المواد والعقوبات التي تمتهن كرامة الإنسان، منها مادة تسمى “الأفعال الفاضحة والمخلة بالآداب العامة” وتنص على التالي: “من يأتي في مكان عام فعلا أو سلوكا فاضحا أو مخلا بالآداب العامة أو يتزين بزي فاضح أو مخل بالآداب العامة يسبب مضايقة للشعور العام يعاقب بالجلد بما لا يجاوز أربعين جلدة أو بالغرامة أو بالعقوبتين معا”.

أتاح غموض هذه المادة لرجال الشرطة صلاحية تفسيرها حسب المزاج والهوى الشخصي. فطفقوا يستخدمونها بإسراف شديد للتنكيل بالفتيات دون ضابط. ووجد بعض ضعاف النفوس منهم في هذه المادة مدخلا لابتزاز النساء المستضعفات وإشباع رغباتهم ونزواتهم الخاصة، عبر التهديد بتلطيخ سمعتهن في مجتمع تقليدي محافظ لا تمحى فيه الوصمة المعلقة بالمرأة حتى تحشر في القبر.

وقعت آلاف النساء فرائس لهذه المادة، ولم يسلمن من عقوبة الجلد، إضافة للإهانة والتنكيل. وغني عن القول إن بعض هؤلاء النسوة يضطررن للاستسلام للابتزاز، بينما يؤثر البعض الآخر تلقي العقوبة في صمت خوفا من الوصمة، والمحظوظة منهن هي من تستطيع رفع عقيرتها برفض الخضوع للتهديد وتصمد في مواجهة العسف.

هذه الفئة الأخيرة مثلتها الصحفية، لبنى أحمد حسين، صاحبة قضية “بنطال الجينز” التي ملأت الدنيا وشغلت الناس قبل عدة سنوات، حين رفضت ابتزاز رجال الشرطة وأصرت على الذهاب للمحكمة حتى تحولت قضيتها لقضية رأي عام عالمي انتهت بتدخل المجتمع الدولي وضغطه على الحكومة حتى تم تسفيرها لإحدى الدول الأوروبية.

لم يكن القانون الجنائي الذي يتضمن موادا تنتهك كرامة المواطنين وحيدا في هذا السياق، حيث أتبعته حكومة الإخوان المسلمين بقانون آخر في عام 1996 يسمى “قانون النظام العام” لولاية الخرطوم. شمل القانون مواد تعسفية لا تختلف عن تلك التي طبقتها المحاكم التابعة لجماعة “طالبان” أو “حركة الشباب” في الصومال أو بوكو حرام.

نصت المادة السابعة من ذلك القانون على التالي: “عدم السماح بالرقص المختلط بين الرجال والنساء، أو السماح برقص النساء أمام الرجال”. وجاء في المادة الرابعة عشر منه أنه: “لا يجوز لأي محل تصفيف شعر للنساء أن يستخدم أي رجل في ذلك”، كما أنه “يُحظر دخول الرجال لأي محل لتصفيف شعر النساء”.

ويمنع القانون “إقامة أي حفل غنائي أو تقديم عرض سينمائي أو مسرحي أو معرض أو غيره أو الاستمرار فيه خلال الفترة من الساعة الثانية عشر ظهرا حتى الساعة الثانية ظهرا من يوم الجمعة”، كما نص على “عدم فتح المحال التجارية في وقت صلاة الجمعة”.

وكذلك حظر القانون “ممارسة مهنة تفصيل أزياء السيدات إلا بعد الحصول على تصديق من السلطة المحلية”، ومنع “أماكن بيع الطعام والشراب والأشخاص من مزاولة البيع في نهار رمضان”.

وهذه المادة الأخيرة تتضمن افتئاتا كبيرا على الدين الإسلامي الذي أعطى رخصا عديدة للإفطار في شهر رمضان، كما أنها تنتهك حقوق غير المسلمين التي لا يجب أن تنتقص بسبب ممارسة الشعائر الإسلامية.

تعكس الأمثلة أعلاه غيضا من فيض ممارسات كبت الحريات وامتهان الكرامة وانتهاك حقوق الإنسان التي تستمر حكومة الإخوان المسلمين بتنفيذها لنحو ثلاثين سنة في السودان.

بالطبع، لم تجد هذه القوانين والممارسات القمعية شجبا من رجال الدين ومنظوماتهم المختلفة وعلى رأسها الجماعة الحكومية المعروفة باسم “هيئة علماء السودان” أو من أئمة المساجد، ذلك لأنهم لا يأبهون لانتهاك السلطان لحريات المواطنين وامتهانه لكرامتهم، بل يسعون جاهدين لإيجاد المبررات الفقهية لأفعاله.

 

لا شك أن القوانين التعسفية والممارسات القمعية تعكس طبيعة الاستبداد الديني المستند إلى مختلف صور الظلم والتمييز والإكراه وانتهاك حقوق الإنسان كما أنها تهدف إلى تشديد الهيمنة السلطوية وتعزيز الوصاية على العقول والأبدان، وتسعى إلى اعتقال حرية الفكر والتعبير في سجن الاستبداد الكبير.

وإذا كانت هذه الممارسات حتمية لأنها تقع في صميم بنية الاستبداد الديني، فإنه لا يوجد سبيل للتخلص منها سوى إقامة نظام حكم ديموقراطي ينبني على قاعدة الفصل التام بين الدين والدولة، ويستند إلى مبدأ المواطنة كأساس للحقوق والواجبات في الدولة، ويسمح بالتداول السلمي للسلطة.

الحرة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق