أقلام مختارة

قوة الحريري من بيروت إلى واشنطن

وليد شقير

وليد شقير

أعانت التفاعلات السياسية التي نجمت عن حادثة قبرشمون البساتين الدموية، ونتائجها، رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري خلال محادثاته في واشنطن مع وزير الخارجية الأميركية مايك بومبيو وسائر المسؤولين الأميركيين الذين يعيشون في مناخ يشكك بمدى قدرة الحكومة اللبنانية على التفلت من قبضة “حزب الله” وإيران في لبنان.

استمد الحريري على الأرجح دفعا لمصلحة موقعه في السلطة، من الأزمة الأخيرة التي عصفت بلبنان نتيجة الحادثة، والتي جمدت عمل الحكومة 40 يوما، لرفض رئيس الحكومة الانصياع لمطلب “حزب الله” الدعوة إلى اجتماع مجلس الوزراء، من أجل مناقشة الحادثة وفق المقاييس والنتائج المسبقة التي وضعها الأمين العام للحزب. وهذا الدفع استبق الزيارة التي قام بها إلى العاصمة الأميركية وربما أقنع بعض دوائرها المتشددة حيال إيران وأذرعها، والتي تعتقد بأن الحكومة خاضعة لمشيئة الحزب، بأن حساباتها ليست بهذه البساطة، ومكّن الحريري من مخاطبة المسؤولين في واشنطن من موقع غير الخاضع للحزب ومشيئته في الصراع الإقليمي.

على رغم الهشاشة التي ظهرت فيها السلطة السياسية اللبنانية إبان الأزمة، نتيجة تجميد مجلس الوزراء بسبب حادث أمني، لقرارات حيوية على طريق طويل لتصحيح الاقتصاد، فإن حصيلة معالجاتها أعطت مؤشرا إلى أن سلاح الموقف الذي اعتمده الحريري يبقي له هامش مناورة واسعا، ومصدر قوة في التوازنات الداخلية، خلافا لانطباعات غربية بأن القرار في الحكومة ل”حزب الله” وحلفائه.

من المؤكد أن الحريري لو زار واشنطن والحكومة عاجزة عن الاجتماع، كان الإصغاء له ليكون مختلفا، فيما هو أجرى محادثاته بعد أن تمكنت الحكومة من الالتئام بشروط مغايرة لتلك التي افتعلها “حزب الله”. فتأخير اجتماعها 40 يوما نتيجة توافق رئيس الجمهورية العماد ميشال عون مع “حزب الله” على شروط إنهاء الأزمة أضعف القناعة بقدرتها على تأمين توافق وطني حول الوفاء بالتزامات لبنان أمام المجتمع الدولي، فيما التئامها قبل الزيارة أبقى على الأمل بهذه القدرة قائما.

استفاد الحريري بفعل اعتماد سلاح الموقف من عوامل عدة، فتشدد في التضامن مع حليفه رئيس “الحزب التقدمي الاشتراكي” وليد جنبلاط، مدركا من البداية أن ما حصل يستهدفه وأن الإمعان في محاولة حشره يقود إلى فتنة في الجبل تهدد الاستقرار وتطيح بكل جهوده لصونه، وأن جموح البعض نحو “تحجيم” الزعيم الدرزي يمس في نهاية المطاف دور رئاسة الحكومة في حفظ التوازنات. فالحادثة وقعت بعد أشهر من المماحكات بين “تيار المستقبل” و”التيار الوطني الحر” تحت عنوان محاولات تحوير اتفاق الطائف. واستفاد أيضا من صلابة موقف جنبلاط وقاعدته الشعبية والحزبية في مواجهة الضغوط التي لها خلفيات إقليمية ومحلية تقاطعت ضده. عارض الحريري محاولات استخدام الجيش ضد “الاشتراكي” منذ اليوم الأول للحادثة. وتقاطع في ذلك مع قائد الجيش العماد جوزيف عون برفض جر الجيش إلى صراع أهلي وصدام مع جمهور واسع، ثم مع الرسائل الأميركية التي وصلت إلى المعنيين، وسبقت بيان السفارة الأميركية الشهير، الرافض لاستغلال الحادثة من أجل تعزيز مواقع سياسية. فهي رسائل أكدت بوضوح أن الجيش هو لحماية الاستقرار وليس للمشاركة في تصفية الحسابات السياسية.

واستفاد الحريري خصوصا من إصرار رئيس البرلمان نبيه بري على مخارج من الأزمة تقوم على المصالحة لا الكسر، سواء بالوسائل الأمنية أو السياسية التي كان عنوانها إحالة الحادثة الدموية على المجلس العدلي، ما أدى إلى تعثر المصالحة التي أصر عليها بري بديلا لأي حلول إشكالية. واستفاد من قدرة بري على إقناع “حزب الله” بالتراجع عن شروطه مع حلفائه التي أدت إلى تعطيل مجلس الوزراء، بعد أن أخطأ الحسابات في سعيه لفرض هذه الشروط على جنبلاط، وفي المراهنة مع الرئاسة الأولى، على استدارة رئيس “الاشتراكي” تحت الضغط. كما استفاد الحريري من وقوف فريق مسيحي أساسي هو حزب “القوات اللبنانية” إلى جانب جنبلاط، ومع مقاربته للمخارج طوال فترة التفاوض وشد الحبال.

مثلما استفاد الحريري، استفاد حلفاؤه وأصدقاؤه الذين استند إليهم، واستفاد أيضا بعض خصومه. وإذا كان صحيحا أن نزول “حزب الله” ومعه “التيار الوطني الحر”، عن شجرة المطالب العالية السقف التي طرحها للي ذراع جنبلاط، شكل نقطة قوة للحريري في مخاطبة المسؤولين الأميركيين، بفعل سلاح الموقف الذي اعتمده، فإن الحزب هو الآخر كان من المستفيدين من تبديد الانطباع بأنه يهيمن على الحكومة وقراراتها. على رغم المكابرة الحزب يخشى تصعيدا في العقوبات عليه، قد يطال حلفاءه في السلطة والمؤسسات اللبنانية، وينعكس على الاقتصاد برمته، في وقت يقلق من أن ينقلب أي انهيار اقتصادي عليه، ويُتهم بأن انخراطه في الصراع الإقليمي هو السبب. ولذلك لا يتوقف عن التبرؤ من تهمة تحكّمه بالقرار اللبناني. الحزب استفاد من أن الحريري هو الأقدر على استدراج الدعم الأميركي والغربي الذي يحول دون تدهور اقتصادي سيطال جمهوره مثل غيره. ولذلك يبرر تراجعه في الداخل، بالإبقاء على تيقظه حيال “الأعداء في الخارج”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق