يدور النقاش اليوم في لبنان حول حقيقة من يتفوق على الآخر بالفساد؛ السياسيون أم شعوبهم وجماعاتهم وطوائفهم. ذاك أن معادلة اختبرناها في الفترة الأخيرة وتتمثل في أن الفساد كممارسة وكهوية سياسية لا يُضعف من القوة التمثيلية للسياسي، لا بل في أحيان كثيرة يعزز منها. وليس الفساد وحده القيمة السلبية التي جرى استدخالها بصفتها شرطا في المواجهة الأهلية الباردة التي تخوضها الجماعات اللبنانية. المذهبية مثلا، صارت معطى بديهيا وشرطا تمثيليا لا يطمح أحد إلى تجاوزه. وهنا علينا أن نتوقف عند حقيقة أن “الشعب” أكثر مذهبية من ممثليه؛ والأخيرون في كثير من الأحيان هم مجرد مستجيبين لهذا الشرط الشعبي.
حين تلتقي بأحمد الحريري مثلا، وهو الأمين العام لتيار المستقبل (السني) يمكن أن تلاحظ أنه على المستوى الشخصي ليس مذهبيا. في مزاجه وثيابه وخياراته الخاصة يشبه إلى حد بعيد معظم شباب جيله، ولكن ما أن تباشر معه حديثا عاما من نوع قانون الأحوال الشخصية المدني، حتى يأتيك جواب من نوع: “أنا لا أمانع هذا القانون لكن الشارع لا يتحمله”.
جبران باسيل نفسه، وهو أيقونة التوتر المذهبي في لبنان، أميل إلى الاعتقاد بأنه مراوغ في مذهبيته ولا يمارسها في حياته الشخصية، إلا أنه يعرف أنها القيمة شبه الوحيدة التي يمكن أن تثمر ولاء وتصدرا وتمثيلا. فالطوائف تصفق أكثر لصاحب الصوت الأعلى في مواجهة الطائفة الأخرى. وهنا يلوح الفساد بصفته قناة تصريف لهذه المعادلة. السياسي فاسد بهدف تصريف مصالح جماعته. حين يتدخل لمنع المحاكمة عن ضابط متورط بشبكات دعارة، فهو يرعى مصالح أبناء طائفته. هذا الفعل سيضاعف من قوته التمثيلية طالما أن قانون الانتخابات حصر ناخبيه بأبناء طائفته.
تنسحب هذه المعادلة على شيء في لبنان، وبالتالي فإن من يعيش خارجها سيشعر بيتم من المرجح أن يعقبه قرار بالعودة إلى حضن الطائفة. هذا ما قاله تقريبا الفنان زياد عيتاني الذي جرى الاعتداء على حريته ولفقت له تهمة العمالة وبقي شهورا في السجن إلى أن تدخلت طائفته ونجدته. زياد لم يكن قبل هذه المأساة جزءا من وجدان طائفته، وفي أحيان كثيرة كان خارج هذا الوجدان تماما، إلا أنه أدرك اليوم أن العيش خارج هذا الوجدان هو يُتم لا يريده لنفسه ولا لابنته.
“حزب الله” أقل ضجيجا من القوى الأخرى في مذهبيته. هو حزب مذهبي تعريفا، إلا أنه أكثر قدرة على المراوغة في ممارسته هذه المذهبية، أو ربما يمكن القول إن مذهبيته صادرة من حساسية أعمق وهو ما يساعدها على تجاوز المذهبية السطحية وعلى عدم ابتذالها. أمثلة كثيرة يمكن للمرء أن يسوقها على هذا الصعيد. ففي اليوم الذي نقلت فيه محطة “أل بي سي” خبرا عن إقدام زعيم الدروز وليد جنبلاط على التحذير من التعرض لضابط من أبناء طائفته، كانت قوة من الجيش اللبناني تنفذ عملية قتل فيها تاجر مخدرات شيعي في منطقة نفوذ “حزب الله” وبتسهيل من الأخير. هذان الحدثان يرمزان إلى تلك المعادلة. معادلة الطائفة المأزومة والطائفة المنتصرة.
اليوميات المذهبية في لبنان تقول كثيرا عن حقائق هذه الظاهرة وتدحض كثيرا من الخُطب التي تنزه “الشعب” وتلصق هذه الظاهرة بـ”الزعماء الفاسدين”.
وخطاب التنزيه إذ يمارس عملية نكران كبرى لحقائق ثقيلة نختبرها ونعيشها كل يوم يدفع أحيانا إلى تصديق مزاعم السياسيين حين تلتقيهم في جلسات غير عامة ويباشرون الشكوى من “الشعب”. ذاك أن “الشعب” ينتظر منهم ما يفوق قدراتهم على تحقيقه. هذه معادلة صحيحة. ففي لبنان الدولة ضعيفة وفاشلة، ولا تستطيع تلبية حاجات الناس على كل المستويات. منازل الزعماء تتحول إلى إدارات عامة لدخول المستشفيات ولتأمين مقاعد دراسية وللتخفف من الضرائب وصولا إلى الخلافات الزوجية والعائلية وقضايا الإرث. هذا يرتب أعباء هائلة على السياسيين ويدفع إلى عدم غبطهم على ما أنعمت عليهم به السلطة من نفوذ وتصدر.
لا يصلح عرض حال السياسيين هذا لأن يكون منولوغا حزينا على حال السياسيين وذما بـ”الشعوب اللبنانية”. يصلح لأن يكون عرضا لحقيقة الاهتراء الناجمة عن انهيار الدولة وانكفاء الناس إلى طوائفها بصفتها الخيار البديل. فكيف يمكن لشيعي لبناني أن يشعر أن الدولة هي دولته في وقت أتاح له “حزب الله” قدرات تفوق قدرات الدولة على كل الأصعدة. وكيف يمكن لمسيحي ألا يكون مع جبران باسيل طالما أن الأخير هو فرصته الوحيدة للوظيفة وللحماية وللارتقاء.
لكن في المقابل فإن الانهيار الأخير سيأتي على كل شيء، وهذه المعادلة البائسة ستأخذ معها “الجمل بما حمل”. وإذا كان السياسيون قد أمنوا طرق الهرب إلى ودائعهم في الخارج، فإن جبران باسيل سيبقى وزيرا للخارجية من دون مسيحيين، وحزب الله سيبقى “هم الغالبون”، وسيحتفظ سعد الحريري بقدرة تمكنه من إخراج زياد عيتاني من السجن.
الحرة