*د.مهيب صالحة
منذ ما يزيد عن سنة ونصف والدائرة تدور بين موسكو وأنقرة وطهران خارج السياق الدولي الذي تقرر في جنيف. وفي كل قمة أو اجتماع حول المسألة السورية بين قادة هذه العواصم، تصر خارجياتهم على تضمين بياناتهم الختامية قرب انتهاء تشكيل اللجنة الدستورية، التي أقرت في سوتشي 30 كانون الثاني / يناير 2018.
وإذا كانت القمة متأخرة، والساحة تزدحم بأحداث تتطلب من الشركاء في أستانا كسب مزيد من الوقت، يتحفنا السيد لافروف أو السيد بغدانوف بقرب تشكيل اللجنة ربما في شهر أو أسبوع أو أيام.
ويستمر سياق أستانا ـ سوتشي على ايقاع مواعيد اللجنة الدستورية، تتغير معه المعادلات في الميدان وعلى الخرائط السياسية، ويزداد طين اللجنة الدستورية بِلَّة كلما ادعت واشنطن عدم رضاها عن أداء موسكو في تشكيلها، وتهديدها بإعلان فشل مساق أستانا ـ سوتشي وإعادة المسألة السورية إلى مساق جنيف، الذي حتى هذه اللحظة لا ترغب به جميع أطراف الصراع الداخليين والخارجيين، وفي الوقت ذاته يغيب المبعوث الأممي، بغض النظر عمن يكون، عن المشهد السوري، وإذا ما عاد فإنه لا يحمل في جعبته سوى ملف اللجنة الدستورية، وليس على لسانه سوى وعد بقرب تشكيلها.
لجنة دستورية مؤلفة من 150 عضواً موزعين على ثلاثة أثلاث، ثلث للموالاة وثلث للمعارضة وثلث للمستقلين والمجتمع المدني، لا يتورع عرابوها عن سوق ذرائع واهية تبرر إضاعة الوقت في تشكيلها، تارة الخلاف حول ستة أسماء في ثلث المستقلين، وتارة على اسمين، طالما أن الذي يسميهم هو المبعوث الأممي.
ولكن يراد لهذا الخلاف السطحي أن يحجب الخلافات الرئيسة المتعلقة بعمل اللجنة الدستورية وصلاحياتها والأساس الذي تستند إليه دستور جديد أم تعديل دستور 2012 وآلية اتخاذ القرار فيها.
وهذه الخلافات ربما تعكس عدم التوافق السياسي بين الدول المتدخلة والفاعلة في المسألة السورية حول شكل وجوهر حلها.
والسؤال الأبرز لِمَ هذا العدد الكبير للجنة الدستورية طالما أن حل المسألة السورية لا يمكن أن يكون إلا عبر توافق دولي وقرار بإنهاء الحرب في سورية وعليها، وليس عبر لجنة دستورية، بدون توافق، سترحل إليها كل الخلافات والتناقضات السياسية وليس بيدها قرار. إن وضع العربة أمام الحصان هو المسؤول عن التلكؤ في تشكيل اللجنة الدستورية يراد منه دائماً كسب الوقت من قبل أطراف أستانا ـ سوتشي طالما لم يتوصلوا إلى توافق سياسي فيما بينهم، وعلى وجه التخصيص بين الاتحاد الروسي والولايات المتحدة الأمريكية الذي هو كلمة المرور لأي حل للمسألة السورية بما فيها العملية الدستورية (دستور وانتخابات ومؤسسات دستورية).
لقد انتهت قمة أنقرة الثلاثية يوم الاثنين 16 أيلول 2019 من دون أي جديد. فعلى الصعيد السياسي أكدت على وحدة وسيادة الدولة السورية، ودولها هي من أكثر الدول خرقاً للوحدة والسيادة، والقمة من دون السوريين هي بحد ذاتها نفي قاطع للسيادة وللوحدة. وأن لا حل عسكري للمسألة السورية، ودول القمة أكثر الدول تدخلاً عسكرياً وقواتها الوحيدة مع الولايات المتحدة الأمريكية تحتل أراضِ سورية وتتحكم فيها. وأن الحل سياسي وفق القرارات الدولية، ودول القمة هي من أخذت الحل من المساق الأممي إلى مساق أستانا.
وأن أي حكم ذاتي هو غير شرعي، وروسيا أول من اقترح نظاماً فيدرالياً لسورية الجديدة، وتركيا تنفذه على الأرض في شمال غرب سورية وترفضه في شمال شرق سورية، وإيران تسعى لتنفيذه في محيط العاصمة. وأكدت القمة على ضمان التهدئة على الارض في منطقة خفض التصعيد في إدلب من خلال تنفيذ جميع عناصر اتفاقيات إدلب، لا سيما مذكرة 17 سبتمبر/ أيلول 2018، وهي التي لا تلتزم بالتهدئة، وكل دولة من دول القمة يعمل وفق أجندته الخاصة في الشمال السوري.
وأعربت القمة عن قلقها إزاء خطورة زيادة تدهور الحالة الإنسانية في المنطقة وما حولها نتيجة التصعيد المستمر، كما اتفقوا على ضرورة اتخاذ خطوات ملموسة للحد من الانتهاكات وحماية السكان المدنيين وفقًا للقانون الإنساني الدولي، وهي التي تتسبب في وجود الحالة الإنسانية السيئة، وتغطي جميع الانتهاكات بحقوق الإنسان والسكان المدنيين.
وشددت القمة على الحاجة الماسة لزيادة المساعدات الإنسانية الموجهة للسوريين، وناشدت المجتمع الدولي، والأمم المتحدة، والوكالات الإنسانية، تحمل مسؤولية أكبر لتقاسم عبء العمل الإنساني، من خلال مد شبكات إمدادات المياه والطاقة، وإقامة المدارس والمستشفيات، وإعادة البنية التحتية لسابق عهدها، وذلك على نحو يعزز من تخفيف معاناة السوريين، ودول القمة تعفي نفسها من مهمة تقديم المساعدات إذ أنها أقل الدول مساهمة في إغاثة الشعب السوري، بل ساهمت لدرجة كبيرة في نكبته الإنسانية.
كما طالبت القمة بضرورة تسهيل العودة الآمنة والطوعية للاجئين والنازحين السوريين إلى أماكن إقامتهم في بلدهم وتقديم مساهمات مناسبة من أجل ضمان إعادة توطينهم وتطبيعهم، ودول القمة أكثر الدول التي ساهمت في تهجير السوريين من بيوتهم. وهنأ قادة القمة بعضهم البعض على الانجاز الكبير بتشكيل اللجنة الدستورية، وحتى الأمس يختلفون على اسم أو اثنين من أصل مائة وخمسين اسماً… إن هذه القمة كسابقاتها تعبر عن فشل مساق أستانا ـ سوتشي وعجزه عن التقدم باتجاه الحل السياسي ويعكس ذلك بيانها الختامي الذي ثبت رغبات كل طرف دون أن يعني التوافق حولها، فضلاً عن همروجة التكاذبات في المساعي والإدانات التي تتكرر في كل قمة. إن الخلافات بين موسكو وأنقرة وطهران في سورية لا تخضع فقط لتناقض المصالح البينية بل أيضاً لتقاطع المصالح الروسية الأمريكية ومع دول إقليمية أخرى وأهمها إسرائيل.
والفرح بتشكيل اللجنة الدستورية ـ إن صح هذه المرة ـ لن يكون للجنة أية فاعلية ما لم يحصل توافق روسي أمريكي على شكل الحل السياسي وجوهره يترجم سورياً بعملية دستورية.
وفي هذا الصدد، لا بد من التذكير بأن الدستور هو العقد الاجتماعي الذي يتوافق عليه أفراد المجتمع ويحدد الأسس والمبادئ التي يقوم عليها تنظيم حياتهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ويحدد هوياتهم وطبيعة العلاقات بينهم. وفلسفة الدستور، أي دستور، تتحدد بأعمدته السبعة: السيادة، نظام الحكم أو النظام السياسي، النظام الإداري والتنموي، الهوية الوطنية والهوية الاقتصادية، حقوق الأفراد والجماعات، الحريات، المرأة والأسرة. ومن خلال خطاب الأطراف الداخلية المتصارعة لا يبدو أن ثمة قواسم مشتركة حول هذه الأعمدة، إنما كل طرف ينأى عن الآخر ويزداد تمسكاً بخياراته، بينما العمل الدستوري لكي ينجح يحتاج إلى تقارب الأطراف وتفهم هواجس بعضها البعض، وحلحلة مواقفها باتجاه إنتاج توافقات وطنية.
توجد تقاليد عالمية في مجال الدسترة، فالدستور كعقد اجتماعي لا يفرض من الخارج أو من قوة احتلال، وإن حصل فإنه لن يساهم في استقرار البلد وتطوره، إنما قد يأخذ البلاد إلى المكان الذي يتجدد فيه الصراع الداخلي وربما يتخذ أشكال أخرى وتحالفات أخرى وأعباء إضافية أخرى.
إن الدستور فعل وطني ـ سيادي بامتياز يجب أن تتمثل فيه كافة مكونات وخيارات الشعب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأثنية والأهلية والمدنية والثقافية والفكرية والفنية والتقنية.. من خلال جمعية تأسيسية ـ تمثيلية واسعة، وفي حالات الحرب الأهلية أو الداخلية يفضل أن تكون الجمعية أحد منتجات حوار وطني مستقل ومسؤول، وأن يتميز أعضاؤها بالكفاءة والنزاهة والمسؤولية والاستقلالية والتخصصية والمصداقية الوطنية ، وبالتالي فإن التشكيلة غير المنتهية المعروضة في البورصة السياسية تفتقد لكل هذه المعايير أو معظمها وبخاصة معيار الاستقلالية والتمثيلية. وفي هذه الحالة سوف يفتقد الدستور القادم الصفة الشرعية والديمقراطية وفقاً للمعاير الدولية والقانونية.
إن الحوار الوطني على قاعدة المساواة وتكافؤ الفرص هو الوسيلة الوحيدة التي يمكنها إنتاج حلول وطنية يجسدها دستور دائم يعده السوريون وفق القواعد القانونية الراسخة والمعايير الدولية المتعارف عليها، وليس مجرد طبخة بحص دولية يراد منها تكسير أسنان السوريين وايهامهم بالشبع.
*كاتب وأكاديمي سوري