توصف الصحافة عادة بـ «الصفراء» اذا هي خاتلت أو زوّرت ولفّقت أخباراً كاذبة ومغرضة… لكنّ جريدة «النهار» اللبنانية ابتدعت صفة جديدة هي الصحافة «البيضاء» فخرجت الخميس الماضي بصفحات بيض بلا حبر ولا أحرف ولا كلمات، ما خلا اسمها وصورة الشهيد جبران تويني. لم يكن هذا الصدور «الأبيض» ليوم واحد خدعة أو حيلة لاستدراج القراء إلى فخ إعلامي أو إعلاني مثلما تفعل في أحيان صحف عالمية، بل كان وقفة احتجاج أو صرخة اعتراض على الأحوال المزرية التي آل اليها لبنان، سياسياً واقتصادياً وأمنياً وأخلاقياً، بسبب الفساد المستشري داخل الدولة وخارجها، والانقسام الذي أنهك كاهل الحكم والطائفية البغيضة، المعلنة والمضمرة والصراع على اقتسام بقايا الغنائم في وطن منهار ومدمّر. وكان لا بد لقراء «النهار» الأوفياء أن يفتحوا هذه الصفحات البيض ويقرأوا ما يحسن لهم أن يقرأو مما لم يكتب بحبر وإنما بأحرف بيضاء تقول كل شيء، بحسرة وألم، ومن دون مداورة. كانت الرسالة واضحة جداً، جريئة، صارخة وصامتة في آن واحد. وقد يمثل هذا «البياض» ذروة ما يمكن أن يبلغه الاحتجاج الإعلامي الذي ليس سوى احتجاج وطني وشعبي وعلماني…
أذكر كيف خرجت مرة زاوية الشاعر أنسي الحاج «كلمات» في ملحق «النهار» بيضاء مع توقيعه، وكانت صرخة احتجاج أيضاً أطلقها صاحب «لن» ضد الجميع وضد لا أحد، ضد دولة السمسرة والعمالة والاستسلام. وأذكر أيضاً كيف أن الصحف اللبنانية خضعت، في مطلع عهد الوصاية السورية لرقابة سافرة مارستها حينذاك الأجهزة اللبنانية «الوفية»، فكانت تحذف مقاطع وجملاً من المقالات والأخبار، ما يجعل الصفحات أشبه بزوايا «الكلمات المتقاطعة» يطغى علهيا البياض. لكن هذا «البياض» المفروض كان أسود مثل أيدي رجال الرقابة الذين كانوا يذعنون لسلطة «الأخ الأكبر» السوري الذي هيمن على لبنان.
أطلقت «النهار» صرختها بعد أيام على إقفال «دار الصياد» أبوابها. «النهار» قاومت وتقاوم مثل معظم الصحف في لبنان والعالم العربي، وما زالت قادرة على رفع الصوت كعادتها دوما، على رغم أزمتها المالية الخانقة. أما جريدة «الانوار» وشقيقاتها ومنها مجلة «الصياد» العريقة، فاستسلمت بعدما عجزت عن المقاومة واطلقت صرختها الاخيرة، صرخة الاحتضار الأخير. لم يكن احتجاب «الانوار» و»الصياد» وسائر مطبوعات الدار إلا احتجاباً لحقبة من تاريخ الصحافة اللبنانية والعربية المشرقة، هي حقبة هذا الصحافي الرائد الذي كان بمثابة أسطورة. بنى سعيد فريحة مملكة من ورق وحبر، كان هو فيها صحافياً مثابراً مثله مثل سائر الذين عملوا معه. لم يغره المنصب الذي تبوأه بعصاميته ولا «العمادة» ولا السلطة ولا الشهرة، ولم ينس ماضي الفقر والعوز اللذين خبرهما، وكيف تعلم الكتابة على نفسه ليصبح صحافياً، ثم كاتباً من الطراز الرفيع. وكانت مقالاته السياسية والفنية وكذلك قصصه الفريدة بطرافتها تجذب القراء على اختلاف أجيالهم، في لبنان والعالم العربي.
لا أدري لماذا خامرني شعور بالحزن عندما أقفلت «مدرسة سعيد فريحة» أبوابها. هذا الشعور راود حتماً كل الصحافيين الذين عملوا سابقاً في دار الصياد، وهم كثرة وبينهم أسماء كبيرة ورائدة. وكانت هذه الدار تقابل «مملكة النهار» من غير تنافس أو صراع، بل في ما يشبه التكامل على رغم الاختلاف بينهما في مفهوم العمل الصحافي وأبعاده. فـ «النهار» كانت دوما تطمح إلى التحديث وإلى خوض غمار الثقافة الإعلامية الجديدة والطليعية. هذا الشعور بالحزن خامرني أيضاً كما خامر معظم القراء اللبنانيين عندما توقفت جريدة «السفير» عن الصدور وهذه جريدة تفردت بنفسها وصحافييها وكتّابها وفي مقدمهم مؤسسها طلال سلمان، وكذلك بقضاياها ونهجها السياسي.
تمكن أيضاً قراءة العدد «الأبيض» من «النهار» الذي صدر الخميس الماضي في كونه وقفة حداد «بيضاء» على حال الصحافة اللبنانية التي ما برحت تتضاءل يوماً تلو يوم فاقدةً وهج الأيام الجميلة.