أقلام يورابيا

لماذا عدنا لتلقي أخبارنا من لندن؟

زاهي علاوي

في سبعينات وثمانينات القرن الماضي كانت وسائل الإعلام الإنجليزية هي المصدر الأساسي للأخبار والمعلومات، بغض النظر عن مكان حدوثها. فلا زلت أذكر أن جدتي كانت تستمع يومياً لإذاعة “بي بي سي” العربية لمعرفة ما يجري في فلسطين والأردن والمحيط، إن كان هناك ما يهمها، هذا إضافة إلى برنامج رسائل الشوق لكوثر النشاشيبي، التي كانت تبثها عبر الإذاعة الأردنية وتقرأ بعدها حالات الوفاة في الضفة الغربية.
في تسعينيات القرن الماضي أيضاً بدأت الفضائيات العربية رويداً رويداً تغزوا حياتننا اليومية وبدأنا نشعر بنشوة الانتصار من وجود مصدر لمعلومات ينطلق من دول عربية. البداية كانت مع “الجزيرة”، والتي لا أريد الدخول في تفاصيل رسائلها الإخبارية، وأخذت هذه القناة مجدها من الخليج إلى المحيط. حتى أن المواطن العربي، بغض النظر عن أماكن تواجده بدأ يبحث عن لواقط الأقمار الصناعية لاستقبال الجزيرة وغيرها من القنوات.
الأخبار بدأت تأتي من محرر عربي ومراسل عربي وقناة تبث من بلد عربي، مما أعاد الثقة للإعلام العربي برمته ودفع الدول إلى فتح المجال أمام الصحافة الخاصة. ولكن الاستثمار في هذا الجانب واجه قمع السلطات الأمنية والرقابة الذاتية والمصالح الاقتصادية. وسرعان ما عادت وسائل الإعلام الخاصة للسعي وراء استرضاء الحاكم ونسيان المهمة الرئيسية التي وجدت الصحافة من أجلها وعرفت من خلالها بأنها السلطة الرابعة.
مع انطلاق ما عرف بثورات الربيع العربي وتطورها السريع إلى حروب أهلية، بدأت وسائل الإعلام المختلفة، ومنها “الجزيرة” أيضاً، تتخذ منحاً معيناً ومنهجاً واضحاً في الترويج لبعض الأفكار ووضوح عدم حياديتها.
لقد ضل الكثير من وسائل الإعلام العربية الطريق وبدأ ينشر السموم تارة والتشكيك والتخوين والفتن تارة أخرى. لقد أضاعت الكثير من وسائل الإعلام العربية البوصلة ونسيت المهمة الموكلة إليها، وهي محاسبة الحاكم ونشر الحقائق دون مواربة.
في السنوات الأخيرة وفي ظل التجاذبات السياسية بدأت الفضائيات ووسائل الإعلام العربية تفقد بريقها، وأخذ المواطن على مقاطعتها وهجرانها والبحث عن بدائل. اليوم وبعد فقدان الأمل بتحسن الرسائل الإعلامية، عاد المواطن للبحث عن الأخبار من خارج الوطن، ويا حبذا لو كان المراسل أجنبيا، لأنه فقد المصداقية بكل ما هو عربي.
اليوم وبعد عقود من التيه، عدنا لنتلقى أخبار العالم العربي من لندن. ليس لأنها الأسرع، بل لأنها تحاول أن لا تفرق بين أسود وأبيض وتضع الحقائق في نصابها الصحيح. عدنا لنسمع لقنوات بي بي سي وسي إن إن وحتى لمتابعة وسائل الإعلام العربية، التي تتخذ من لندن مقراً لها، لأنها لا تخشى من سطوة حاكم وغدر البلطجية.
لقد أثبت اختفاء الصحفي السعودي، جمال خاشقجي مدى التيه الذي وصلت إليه وسائل الإعلام العربية. فتارة يؤكدون مقتله بعد حقنه بمخدر وتقطيعه إرباً بمنشار عظام، وتارة يؤكدون مقتله بعد ثماني دقائق من دخوله السفارة، وتارة تخرج علينا رواية بأنه دخل مكتب القنصل، وسرعان ما دخل وراءه شخصان وانهالا عليه بالضرب وسحبه إلى غرفة مجاورة.
تخبط وتيه واستخفاف بعقول المواطن العربي، الذي لا يجد سوى توزيع هذه الأخبار عبر وسائل التواصل الاجتماعي، دون التفكير ولو للحظة بالتضارب بهذه الأنباء. فقد اعتاد المواطن على تصديق ما يتناسب ووجهة نظره، بغض النظر عن مدى دقة المعلومة.
ولكن القلة القليلة، التي تبحث عن المعلومة، عادت لمصدر معلوماتها القديم، وهو وسائل الإعلام الغربية، والناطقة منها بالعربية، أو حتى تلك العربية التي تتخذ من لندن مقرا لها. نعم، لقد أفقدتنا المنهجيات الإعلامية الجديدة، المصحوبة بأجندات خاصة الثقة بوسائل الإعلام العربية، التي تتخذ من الدول العربية مقراً لها. ولم يعد أمامنا خيار آخر سوى العودة إلى لندن، التي عودتنا منذ الطفولة نقل الأخبار كما هي (في غالب الأحيان) وعدم الاستخفاف بعقولنا، وهذا هو الأهم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق