فادي عيد
لمن لم يقرأ تاريخ أقدم حضاراتي المنطقة والأرض كلها، وطبيعة علاقة شعبي وجيشي الدولتين لن يستطيع أن يُدرك طبيعة العلاقة بين الجمهوريتين العربيتين المصرية والسورية، ولو فتحنا تاريخ النضال المُشترك بين مصر وسوريا لن تكفينا صحفات جرائد كاملة كي نسرد فيها ذلك التاريخ العظيم، ولعلنا اليوم نكتب صفحة من صفحات ذلك التاريخ ربما لم يقرأها أغلبنا.
هي قصة كُتبت حروفها بالفداء والتضحية ولخّصت لنا معنى العروبة الحقيقي الأصيل، هي قصة ضابط سوري يُدعى جول جمال وُلِد في الأول من أبريل عام 1932م بقرية المشتاية التابعة لمحافظة حمص في اللاذقية ثم انتقل جول ووالداه للعيش بمدينة اللاذقية حيث كان أبوه يوسف الياس جمال طبيباً بيطرياً ومديراً للصحة الحيوانية في اللاذقية وقد شارك في المقاومة ضدّ الاحتلال الفرنسي، فلم يكن غريباً أن يشبّ ابنه على حب العروبة والذود بنفسه فداء للوطن،
فقد حصل جول جمال على الشهادة الابتدائية سنة 1943م والمتوسطة سنة 1950م من الكلية الأرثوذكسية في اللاذقية، ثم حصل على الشهادة الثانوية من الجامعة السورية في دمشق عام 1953م، ثم التحق بكلية الآداب ثم تركها ليبدأ بعدها حياة جديدة ومساراً جديداً بعد التحاقه بالكلية العسكرية في 23 سبتمبر عام 1953م، وبعدها أرسلته الكلية ببعثة إلى الكلية الحربية المصرية ضمن مجموعة تضم 10 طلاب سوريين للالتحاق بالكلية البحرية في مصر، وهكذا تحقّق حُلم جول جمال بأن يصبح ضابطاً في سلاح البحرية، وتخرّج في 1 ديسمبر 1955م وكان ترتيبه الأول على دفعته، وفي مايو 1956م نال جول جمال شهادة البكالوريس في الدراسات البحرية وكان ترتيبه الأول على الدفعة ليصير الملازم ثاني جول جمال، و قبل أن يستعد جول ورفاقه لمغادرة مصر والعودة إلى سوريا، كانت مصر استوردت زوارق طوربيد حديثة، وهو الأمر الذي جعل الحكومة السورية في ذلك الوقت أن تبقي على بعثتها في مصر لكي يتم تدريب ضبّاطها على تلك الزوارق الحديثة، و في تلك الفترة كانت مصر بقيادة زعيم العرب الخالد جمال عبد الناصر في صراع شديد ضدّ القوى الغربية بسبب دعم مصر لجميع حركات التحرّر في الوطن العربي وإفريقيا، ولرغبة مصر في استقلالها التام وعدم خنوعها للغرب، ونتيجة لقرار جمال عبد الناصر بتأميم قناة السويس شنّت كل من بريطانيا وفرنسا وإسرائيل العدوان الثلاثي على مصر1956م، وفي تلك اللحظة التي رأي فيها جول جمال الشعب المصري وهو يدفع ثمن عروبته ونضاله بالدماء، أيقن تماماً أن الحياة لا تساوي شيئاً والوطن ينزف، أن لا للحرية وجود والاحتلال كل يوم يحصد من أرواحنا قبل خير أرضنا.
وخلال فترة الحرب كانت المُدمّرة الفرنسية جان بار (أول سفينة مزوّدة بردار في العالم، وعليها109مدافع، طولها 247متراً، وزنها 48750طناً، طاقمها 88ضابطاً و2055 بحاراً) والتي كانت تُعدّ فخر البحرية الفرنسية في خمسينات القرن الماضي، تتوجّه نحو بورسعيد لتدمير ما تبقّى منها بعد ما تعرّضت له من قصف سلاح البحرية والطيران الملكي البريطاني، وفي منتصف ليل 4نوفمبر التقط الملازم ثاني جول جمال و زملاؤه وكان بينهم طالب سوري آخر اسمه نخلة سكاف (أحد أبناء اللاذقية أيضاً) بث المُدمّرة الفرنسية جان بار، وعندما عَلِم جول بطلب القيادة المصرية تشكيل فرق فدائية دخل إلى مكتب قائده جلال الدسوقي وطلب منه أن يسمح له بالمشاركة، في العمليات العسكرية، لكن قائده اعترض على ذلك، كون اللوائح العسكرية لاتسمح لأي أجنبي أن يقوم بدوريات بحرية، لكن أصرّ جول جمال على المشاركة قائلاً “أنا لا أرى بلدين أنا أرى بلداً واحداً”، حتى قام جول جمال بهجوم استشهادي بواسطة زورق طوربيدي مع زملائه أصاب فيه المُدمّرة الفرنسية بشلل تام، في وقت لم يكن يعرف فيه العمليات الاستشهادية التي أصبحت في ما بعد عقيدة المناضلين العرب ضدّ المُستعمر في كل مكان في مصر والشام والعراق والمغرب العربي، لكي يكتب جول جمال تاريخاً جديداً بدمائه الذكية.
وفي يوم 19نوفمبر 1956م أقامت الكاتدرائية المريمية للروم الأرثوذكس في العاصمة السورية دمشق قداس الجناز للشهيد جول جمال حضره رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب ورئيس الوزراء وأعضاء الحكومة ورئيس الأركان العامة وكبار موظفي الدولة وضبّاط الجيش وحشد غفير من أبناء الشعب السورى إضافة إلى ممثلين للجيش المصري.
نعم فدماء جول جمال التي مهّدت للوحدة بين مصر وسوريا عام 1958م، لكي يصبح بعدها علم الدولتين موحداً بالثلاثة ألوان الأحمر والأبيض والأسود ونجمتي الوحدة الذهبيتين لن تجعلنا نسمح بأن يقوم جند الدجّال أن صح التعبير باستبداله بعلم الانتداب الفرنسي ذي الثلاث نجوم، رحم الله سليمان الحلبي القرن العشرين، وحفظ خير أجناد الأرض وحُماة الديار من شر المُتآمرين، وحفظ العرب من كيد المتواطئين الخائنين.
*باحث و محلل سياسى بقضايا الشرق الاوسط