مشكلة أغلب النخب التي تتعاطى بالتحليل والكتابة السياسية، أنها تنظر من أعلى نحو الناس. وهذه النظرة من أعلى، جعلت الرؤية بعيدة وغير واقعية، وبالتالي منفصلة عن الواقع.
هذا تقريبا ما خطر ببالي، وأنا في جلسة جميلة خالية من التكلف والتصنع في دارة الكاتب والصديق المثقف سامح المحاريق في العاصمة الأردنية قبل أسابيع، أستمع “باستمتاع” بمعيته ونفر من المدعوين إلى شاب تخصص باللغة الفارسية وآدابها، وجعل يلقي على مسامعنا شيئا من عشقه لهذا الأدب المعتق، وقراءاته الذاتية لإيران في عهد الملالي، وولاية الفقيه التي يرى فيها اختطافا للروح الإيرانية الأصيلة.
منذ تلك اللحظة، وأنا أنظر إلى الجمهورية الإسلامية المغلقة على تشيعها، من نافذة علي عبيدات المتخصص، بلا ادعاء، في الشأن الإيراني، قديمه وحديثه، والقارئ بنهم وبلغة فارسية لا تشوبها شائبة لكل ما يتعلق ببلاد فارس.
الآن، والحديث كله في فضاء الإعلام والمنطقة عن إيران، أتساءل عن معضلتنا العربية في محاولة فهم إيران، بعيدا عن الكبسولات الإعلامية الموجهة والمذخرة بالطائفية والعصبية والتخندق الديناميتي المعلب.
جزء من المشكلة، أننا في دوائر نخب المحللين والكتاب، لا نكلف أنفسنا عناء البحث في المسألة الإيرانية، وهي مسألة تتجاوز خلافنا “الإقليمي” متشابك المصالح وبالغ التعقيد. فإيران المنغلقة على ذاتها منذ انطلق الخميني كرصاصة قادمة من القرن السابع لتستقر في قلب القرن العشرين، على حد وصف الراحل محمد حسنين هيكل، غلفت كل حضارتها وثقافتها بالمقدس الديني تحت عمامة ولاية مطلقة للفقيه، مثلما غلفت نساءها فائقات الجمال بالتشادور الأسود القادم من ثقافة الصحراء.
مما تعلمته من علي عبيدات، وهو شاب متخصص بعمق في الثقافة الإيرانية، ويقرأ صحفها اليومية بذات الطلاقة التي يقرأ فيها الشعر الفارسي القديم، أن كل ما عرفته عن إيران أغلبه تضليل، وأنني مارست التضليل بنفسي حين وقعت في فخ ملالي طهران أنفسهم وهم يخطفون الروح الإيرانية المتوثبة والقادرة على اجتراح ثورة على الثورة حين يحين الوقت، وتتاح الفرصة.
إيران، ليست الخميني، وهي ليست الوريث الشرعي لقضية التحكيم بين علي ومعاوية، وإيران أيضا ليست فراغا جغرافيا خاليا إلا من حوزات قم ومشاريع النووي وحسب!
نعم، أكد عبيدات لنا في قراءاته المتعمقة ومن الشعر والأدب الفارسي الواسع قديمه وحديثه على وجود شعوبية فارسية تكره العرب، وهي شعوبية يملكها العرب أنفسهم تجاه شعوب أخرى كثيرة؛ لكنه أكد لنا في الوقت نفسه أن الإيراني “اليوم” غريب عن واقعه السياسي الراهن، ودليله هو هذا الانفتاح الهائل الذي تعكسه الآداب والفنون الفارسية على مختلف مستوياتها.
الإيرانيون ـ كما يراهم عبيدات مثلا ـ استطاعوا أن يدركوا الفرق المخاتل بين سراب الأسطورة وظمأ الواقع، ولذلك استطاعوا وعلى الرغم من إغراقهم في الطقوس والمظاهر أن يقدموا مجتمعا أقرب للمعاصرة من نظيره العربي. مجتمع استطاع أن يتواجد على منصات الجوائز في مهرجان كان، ويقدم “لياقة بدنية” متميزة في كأس العالم الأخيرة بينما كانت الفرق العربية تتعثر في خطواتها في ذات البطولة. وهو مجتمع ـ حسب رؤيتي أنا هذه المرة ـ أقرب إلى الدولة المدنية في حال استطاع الإيرانيون أن يعيدوا الفقيه إلى حوزته فلا تتجاوز ولايته تلك الحوزة وحصيرتها.
♦♦♦♦♦♦♦♦♦♦♦♦♦
وعودة إلى السياسة، من مفهوم جديد اكتسبته شخصيا كمعرفة مضافة..
إن الخلاف بين إيران “الجمهورية الإسلامية” وواشنطن، ليس أيدولوجيا بقدر ما هو تناقض مصالح، وهو خلاف بدأ ينعكس على تحالفات طهران نفسها، وهو الملموس في الموقف الروسي المتراجع بتحفظ عن دعم إيران في سورية، وقد ثبتت موسكو مصالحها في المياه الدافئة وحققت حلمها التاريخي منذ بطرس الأكبر.
العناد الأوروبي “في اتحاده الاقتصادي في بروكسل” المتمثل في التوافق نسبيا مع إيران ومواجهة رفض واشنطن منصته أيضا مصالح، ويمكن العودة ببساطة إلى الموقع الإلكتروني الرسمي للاتحاد الأوروبي وقراءة استراتيجية الاتحاد المعلنة والتي صدرت في صيف عام 2016 عقب توقيع الاتفاق النووي الشهير مع واشنطن، لنعرف حجم المليارات الضخمة التي ستستفيد منها شركات أوروبية عملاقة، أغلبها في ألمانيا وفرنسا!
الكعكة كبيرة والحصص غير عادلة، لذا كانت قراءة بنيامين نتنياهو دقيقة وذكية حين توجه إلى قمة دول البلطيق مشاركا، لتصبح إسرائيل عنوانا تستضيف فيه قمة البلطيق القادمة في تأكيد على أن المحاور الإقليمية والدولية كسرت خطوط الطول ودوائر العرض وانقلبت على الجغرافيا. فدول البلطيق مثلها مثل دول وسط أوروبا، لم تحصل على أكثر من فتات الكعكة الإيرانية الكبيرة، وعلى شكل حصص يوزعها الاتحاد الأوروبي على قاعدة “البقاء للأقوى”.
نتنياهو، كان ذكيا كرجل علاقات عامة بالغ المهارة، ليلتقط الإحباط الأوروبي وسطا وشرقا، فيدخل من نافذة التذمر تلك ويوسع النافذة لتصبح بابا “تخرج منه قافلة جمال”، وتصبح إسرائيل، التي لا تملك مترا من الحدود على بحر البلطيق، جزءا من إقليم دول البلطيق.
ملخص القول، وقد تشتت الحديث وبقينا على ضفافه بلا ضياع..
ما يحكم العالم مصالح؛ ولا يزال عربنا بدولهم المنقسمة، بين مشايخ الدين وأحذية العسكر والأبوة المستبدة، تحرث في البحر بلا جدوى بحثا عن معارك طواحين الهواء، ولا تستطيع أن تقرأ التاريخ سوى من مداخل القادسية (ضد الفرس) وعمورية (ضد الروم)، بينما العالم ومن فيهم الفرس والروم (غير الموجودين سوى في المخيلة العربية) يحلق بعيدا في فضاء مفتوح من الفرص والتحديات.
إيران “الجمهورية الإسلامية” معادية لتاريخ جغرافيتها قبل أن تعادي جوارها كله، وبقاء نظام العتمة في طهران يعتمد على تصدير أزماته لا ثورته، والبحث عن المصالح يتطلب فهما أكبر للشعب الإيراني، والبحث عن نقاط تقاطع معه، لتخليصه وتخليص الإقليم من سيادة أوثوقراطية دينية، تتوسع على ذمة الوهم المقدس، وجغرافيا الأوطان المستباحة.
وملخص الدرس بالنسبة لي شخصيا، أننا كنخب تكتب وتحلل، بحاجة إلى القراءة الأكثر عمقا لا الأكثر نرجسية، وتلك متوفرة حولنا لو تعلمنا الإصغاء وقليلا من التواضع.
الحرة