رياض عصمت
راعني مؤخرا مشاهدة تقرير مصور عن تقنية بدأ استخدامها يشيع في الصين لمراقبة المواطنين مراقبة دقيقة في جميع حركاتهم وسكناتهم، أطلق عليها اسم “الأخ الأكبر”.
لعل ما راعني أكثر من فكرة المراقبة نفسها ثلاث نقاط. أولها أن برنامج المراقبة هذا يعتمد على ملايين الكاميرات المبثوثة في كل مكان، والمزودة بتقنية متقدمة تسجل تعابير وجه كل مواطن أو مواطنة وأبعاده وردود فعله من سرور وغضب وابتسام وأسى، ثم تمنحه نتيجة سلوكه اليومي درجات تقييم، مما يترتب عليه الثواب أو العقاب.
ثانيا، أن هذه التقنية الكومبيوترية اختيارية، بحيث قدم لنا التقرير نموذجا لسيدة صينية اختارت أن تضع نفسها تحت برنامج المراقبة هذا، لأن ليس لديها ما تخفيه، ولأنها تسعى لنيل الميزات التي تحسن وضعها الاجتماعي، ولأن البرنامج بحد ذاته ضمانة لأمنها وسلامتها من أي تهديد طالما هي مراقبة بدقة طوال الوقت.
أما النقطة الثالثة والمخيفة، فهي أن البرنامج سيتم تطويره قريبا ـ على ذمة التقرير ـ بحيث تصبح المراقبة إجبارية لجميع المواطنين من قبل “الأخ الأكبر”، وذلك في العام 2020.
لا شك أن كثيرا من الأنظمة السياسية المتقدمة في العالم سترغب باقتناء هذا البرنامج وتتبناه بقوة في مجتمعاتها. من زاوية إيجابية، يبدو البرنامج وكأنه يقدم حلا لمشكلة تفاقم الجريمة في عديد من البلدان، ويضمن عقاب الفاعلين إزاء ما ارتكبوا، بل ربما يضمن اعتقالهم حتى قبل تهديدهم لسلامة المواطنين. كما يبدو البرنامج وكأنه يتيح المجال لدرء الإرهاب ومحاربة كل من يمكن أن يشكل خطرا حتى في المستقبل، وذلك عبر رصد أنشطته تصرفاته كافة، وتسجيلها وهو ما يزال في مرحلة التخطيط للإمساك به بالجرم المشهود والبرهان الدامغ الذي لا يستطيع أي محام للدفاع إنكاره والتملص منه.
أما أنظمة الدول النامية، فإن هذا البرنامج سيصبح حلما لها، تتوق إليه مهما كانت كلفته باهظة. بالتأكيد، لا تملك معظم تلك الدول ميزانيات تيسر سبيل اقتناء واستخدام هذا البرنامج المكلف وصعب المنال قبل مضي بضعة عقود من الزمن. لكن فكرة المراقبة سرعان ما ستشكل إغراء للنفوس، وتزيد غيرة من هو شغوف بمراقبة الآخرين للتوصل إلى ميزات سواه المتقدمة، بالمال الوفير أو الدعم السخي.
هنا نصل إلى المسألة الأخلاقية. فمن زاوية سلبية، سواء هذا البرنامج اختياريا أم إجباريا، فإنه برنامج مخيف إلى أقصى الحدود، لأنه يلغي أهم عنصرين في الحياة الإنسانية ضمن المجتمعات الغربية الديمقراطية، ألا وهما: الخصوصية والحرية.
قبل عهد طويل، كتب الروائي البريطاني جورج أورويل في عام 1949 رواية حملت عنوان “1984”، واعتبرت آنذاك رواية من أدب الخيال العلمي. في الواقع، كان أورويل يتنبأ عبر عمله السياسي ذاك كيفية هيمنة الدولة الشمولية.
لا تختلف فكرة جورج أورويل كثيرا عن فكرة الأديب الشهير فرانز كافكا، صاحب روايتي “المسخ”، “المحاكمة” (أو “القضية”)، اللتين حولتا إلى فيلمين شهيرين أخرج الثاني منهما أورسون وِلز ولعب بطولته أنتوني بيركنز.
الغريب في نبوءة جورج أورويل أنه أسمى سلطة المراقبة البوليسية “الأخ الأكبر”، (ولا ندري هل اقتبس الصينيون الاسم عن جورج أورويل أم أن الأمر جاء بمحض الصدفة!)؛ ثاني الأمور اللافتة للنظر هي قدرة أورويل الفذة على التقاط أدق التفاصيل الصغيرة التي لا تخطر على بال حول بعض معالم الحياة المستقبلية البائسة في تلك الدولة الشمولية المفترضة، مثل افتقاد أبسط الحاجات اليومية كشفرات الحلاقة مثلا. ثالث الأمور، أن بطل الرواية، المؤرخ وينستون سميث، يتمرد على السلطة نتيجة وقوعه في الحب. رابع الأمور، رسم أورويل الصورة القاتمة للدولة الشمولية في إنكلترا، وليس في أي مكان آخر من العالم الذي كان يطلق عليه أيام الحرب الباردة اسم “كتلة الدول الاشتراكية”، وكأنما قصد أن يحذر من مغبة التوجه في المجتمعات الغربية للانتقال من الليبرالية إلى نقيضها من الاستبداد ومعاملة الناس كقطيع خراف لا يملك أحدهم رأيا مستقلا، ولا خصوصية فردية، ولا حرية تعبير.
يذكر قراء روايات أورويل الأخرى ولعه بتضمين السياسة في أعماله الأدبية بصورة رمزية ذكية، وبالأخص في روايته القصيرة التي سبقت الرواية المذكورة، “مزرعة الحيوانات” (1945)، والتي ترجمت ونشرت أكثر من مرة بالعربية، واعتبرت هجوما انتقاديا لاذعا لنمط الحياة السياسية في الاتحاد السوفييتي (كما كان يسمى آنذاك) ولنموذج الدولة التي يحكمها فرد واحد يقود حزبا واحدا. جدير بالذكر أن رواية “1984” اقتبست إلى السينما مرتين في العام 1956 وفي العام 1984، كذلك اقتبست “مزرعة الحيوانات” للسينما مرتين أيضا.
قبل زمن أقدم، أبدع المخرج الألماني الكبير فريتز لانغ فيلمه “ميتروبوليس” (1927)، الذي ينتمي إلى حقبة السينما الصامتة. ذات مرة، حضرت عرضا فريدا لهذا الفيلم قدمه “معهد غوته” في دمشق مع عازف بيانو ألماني جاء ليرافق عرض الفيلم بعزف حي على البيانو، كما كان يجري أيام زمان في دور العرض السينمائي.
ينتمي فيلم “متروبوليس” إلى طراز الخيال العلمي، ويصور مدينة مستقبلية ينقسم فيها البشر إلى طبقة عاملة يجري استغلالها من قبل سلطة المخططين الثرية والمتنفذة، التي تملك كل شيء، تهيمن على كل شيء، وتراقب تحركات كل إنسان. يهتز هذا البنيان المتين الصارم لأول مرة حين يلمح ابن زعيم المخططين فتاة عاملة للحظات مع مجموعة أطفال ثم تختفي معهم تحت الأرض، فيبحث عنها وقد وقع في هواها، ليكتشف الفساد الكامن وراء تلك “اليوتوبيا” البراقة التي يقودها والده وأعضاء طبقته الموسرة، فيغيره الحب الذي نما في قلبه ويجعله يتمرد على تلك التركيبة المستغلة الزائفة. “متروبوليس” فيلم ثوري، رائد وعظيم، بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
أذكر أن صديقا عليما ببواطن الأمور حذرني ذات يوم من أن أبقي موبايلي بجانبي عندما أجتمع بأصدقاء وأخوض أحاديث لا يستحسن بأحد أن يتنصت عليها. نصحني ذلك الصديق قائلا إنني حتى لو أطفأت الموبايل، ستبقى الجهات المراقبة قادرة على سماعنا، إلا إذا شوشنا على الحديث برفع صوت التلفزيون. علمني أهمية نزع البطارية من الموبايل وإبقائه بعيدا عن غرفة المعيشة ومخدع النوم. المضحك المبكي أن شخصا همس لي فيما بعد مقسما أنه شاهد بأم عينه صورا فوتوغرافية فاضحة للصديق الذي قام بتحذيري، التقطت له خلسة من دون أن يدري!
منذ ذلك الحين، أيقنت أنه مهما بدت ميزات تقنية “الأخ الأكبر” مغرية، فالفكرة وراءها مخيفة حقا، وأنه لا أحد مهما بلغت درجة حذره بمنجاة من تغلغل سلطتها. بالتالي، رغم إدراكي لبعض النوايا الحسنة التي تدعو إلى استخدام تلك التقنيات، كمكافحة انتشار الجريمة والإرهاب، إلا إنها تشكل في النهاية انتهاكا لحرية الإنسان وخصوصيته، بحيث تكرس إرهابا من نوع جديد.
صار من المعروف لجميع الناس اليوم أن هناك مراقبة مفروضة على معظم وسائل الاتصال الجماهيري، من إنترنت وموبايل وسواها، سواء تم التصريح عن ذلك أو إنكاره. كما توجد كاميرات مراقبة زرعت مسبقا في كثير من شاشات التلفزيون التي نقتنيها، وفي أجهزة اللابتوب والموبايلات والآيباد، وهو أمر مقلق بالتأكيد للإنسان الذي لم يرتكب خطأ أو تجاوزات.
ما ذنب مثل هذا المواطن الصالح كي يصبح عرضة للمراقبة على كل شاردة وواردة في حياته وعلاقاته العامة والخاصة، وتجري مراقبته في فراش نومه، بل ربما حتى في أحلامه؟ هل هو منصف حقا أن تسري عدوى برنامج “الأخ الأكبر” الصيني، فيعطى المواطن علامات لقاء انصياعه وطاعته للسلطة، وتحذف له علامات لقاء انتقاده وتمرده عليها؟ إذا صدق ذلك، أعتقد أن معظم مبدعي حضارات العالم من فنانين وأدباء سيرسبون في امتحان “الأخ الأكبر”، لأنهم نادوا ودعوا دائما إلى الإصلاح والتغيير والتطوير.
الحرة