أ.د محمد وهيب
حظيت منطقة سلطنة عُمان عبر مراحل التاريخية المختلفة التي تعاقبت عليها، بارث حضاري نادر ومتميز كان دوماً ملفتاً لأنظار الباحثين والمؤرخين والرحالة القدامى والمحدثين، فقدم هؤلاء توصيفاً غنياً دقيقاً للإرث الحضاري العُماني داخل السلطنة وخارجها، ذلك ان عُمان تزدخر بتاريخ يستدل منه على حضارة مزدهرة عامرة، كان لها الأثر بشكل مباشر وغير مباشر بمعظم حضارات العالم وقدمت نموذجاً متطوراً في معظم المجالات الحضارية، وخير دليل على ذلك مدن القوافل التي اقاموها في مختلف المناطق وارتبطت بمعظم ارجاء الكرة الارضية وخاصة في بلدان الخليج العربي وبلاد الشام، ووصل تأثير التجار العُمانيون الى اوروبا ضاربين اروع الامثلة في القدرة والكفاءة والتميز والمعرفة، وقدرتهم في التحكم بالمسالك والطرق والمعابر والمنافذ البرية والبحرية، ابتداءاً بباب المندب الى مضيق هرمز، فكان العُمانيون مدرسة متكاملة في العلم والعمل.
مما سبق ليس غريباً ان نجد تراث عُمان يرجع في اصوله الى عشرات الالاف من السنين، في العصور القديمه عندما تمكن من تحويل الحجارة والصخور الى ادوات ومعدات وفن هندسة في العمارة والفنون، ثم انهم برعوا في استكشاف المعادن وخاصة النحاس فاصبحوا من امهر الحضارات في ذلك، وحضارة عُرفت تاريخياً باستخراجها للنحاس من الخامات واستخلاصه باساليب اعتبرها العلماء قفزة نوعية في سلم تطوير المعادن على سطح الكرة الارضية، فقاموا بحفر الانفاق العمودية والافقية وتتبعوا عروق النحاس في بطون الجبال وفي قيعان الاودية مثل منطقة جبال الحجر الغربي، ويمكن للمرء ان يشاهد الكيفية التي تمكن بها اجداد أبناء سلطنة عُمان اليوم، من تطويع الطبيعة وتحطيم العوائق والحواجز والوصول الى مرحلة اخرى في التطور البشري في مجال تقنيات تصنيع النحاس عندما تمكنوا من تصنيع الافران لصهر الخامات بدرجة حرارة 900 درجه مئوية، ثم تمكنوا من تطوير صناعة الافران ووصل فيها الى درجات حرارة فاقت درجه الحرارة اللازمه للصهر ووصلوا الى ما يعادل 1300درجه مئويه وهي كافية لاذابة المعادن وكانت هنا قفزة حضارية اخرى تبين لنا كيف كان تفكير الانسان العماني الذي كان يبحث ويوجد الحلول بمهارة، وهنا توصل الى صناعة القوالب ذات الانواع والاشكال المختلفه التي يتم فيها صب المعدن المذاب ليصنع منه الادوات والاسلحة والاواني والاشكال ولتصبح حضارة عُمان/ والمسماة (حضارة مجان) الاكثر تقدما وازدهارا باعتراف علماء التاريخ، فاصبح مجتمع مجان ينعم بالرخاء والراحة والثروة واصبح منذ الألف الاول والثاني قبل الميلاد ليصبح احد الأمثلة على نهج التطور والرقي البشري في التاريخ.
وبدأت مرحلة تصدير التقنيات والتكنولوجيا في صناعة النحاس ومزجه مع القصدير، لانتاج البرونز ليحققوا سبقا في تصنيع الاسلحة المتينه ليتمكنوا من اكتشاف الحديد وتصنيعه ومن ثم بدات حركة التصدير بعد وصولهم الاكتفاء الذاتي ليشقوا طريقهم نحو العالم بدءا بدول الخليج العربي وخاصة اليمن والامارات وصولا عبر الحجاز الى بلاد الشام وليقيموا مدن القوافل في كل مكان وصلوه، وها هم يصلون المدينة الشهيرة البتراء مركز تجارة الانباط الكبير في الشرق الاوسط فجاءوا معهم بانتاجهم وبضائعهم من المعادن والبخور واللبان والتوابل والبهارات ليقيموا في بتراء الأردن، ثم يهبطوا بقوافلهم عبر طريق البخور الدولي الى وادي عربه المشهور بمناجم النحاس وليعبروا الطريق وهم الذين رسموا معالمه وخطوا مساراته في بلدان الشرق ليصلوا الى محطة قصر ام ارتام في الاردن، ثم الى محطة بير مذكور التي اكتشفت حديثا واثارها الخالدة ثم تعبر قوافل الاجداد العمانيين الى ارض فلسطين جنوب الخليل (التي ارتبط اسمها باسم النبي ابراهيم عليه السلام وهو اسم عمان بن ابراهيم الخليل )، ثم عبر عدد من المحطات منها خلصة وعبده وصولا الى شواطئ غزة على البحر الابيض المتوسط ، وهناك تكون البواخر والسفن الاروبية، راسيةً بالانتظار حين تبدا عمليات البيع والشراء بين التجار الاروبيين والتجار العُمانيين لينتهي الامر بحمل البضائع على ظهر البواخر لتصل الى الاسواق الاوروبية، نعم تمكن التجار العُمانيون الذين جابوا طرق التجارة العالمية ليكونو المؤسسين لطريق الايلاف القرشي لاحقا، فهم من رسم وارسى قواعده وخط مساراته واسسو لمن بعدهم منهجا ومسارا وطرقا واسلوب حضارة ، وما زالت بلاد الشام تشهد به ليومنا الحاضر في مجال التراث المشترك حيث تتشابه الكثير من عناصر التراث المادي وغير المادي بين عمان وبلاد الخليج العربي وبلاد الشام خاصة , ستبقى اثار حضارة عمان داخل عمان وخارجها مثالا حيا نابضا ملهما للاجيال القادمه وشاهدا على سيرة الباحثين عن المجد في الدنيا والاخرة .
*بروفيسور أثار أردني