تحقيقات
بيلاروس تمضي قدما في خطة إنشاء محطة للطاقة النووية برغم اعتراض جارتها ليتوانيا
ـ مينسك ـ تمر الشوارع المرصوفة بالأسفلت عبر غابات من أشجار البتولا، ولا يبدو في المكان أية منازل وبالتأكيد ليس هناك بشر يمكن رؤيتهم على مرمى البصر.
وهذا الطريق الذي تم رصفه حديثا يؤدي إلى موقع مشروع له قيمة ومكانة كبيرة بالنسبة لبيلاروس (روسيا البيضاء) ، التي تعد واحدة من أكثر الدول فقرا في القارة الأوروبية، ذلك لأن حكومتها تسعى عن طريق تنفيذ هذا المشروع إلى تحقيق الاعتماد على الذات في تلبية احتياجاتها من الطاقة.
وفجأة يطالع المشاهد من مسافة بعيدة برجين للتبريد بالمحطة النووية التي يتم إنشاؤها مدينة أوستروفيتس، وتربض في مكان قريب مجموعة من الأوناش المستخدمة في التشييد.
وهذه المنشأة التي تبلغ تكلفة إقامتها عدة مليارات من الدولارات، وتقع على مسافة بضعة كيلومترات من الحدود مع دولة ليتوانيا المتاخمة، من المقرر أن تبدأ عملية التشغيل عام 2019 بإطلاق مفاعل نووي قدرته 1200 ميجاوات، ومن المتوقع أن تبدأ وحدة أخرى عملية التشغيل في عام .2020
وتعد هذه المحطة النووية الأولى من نوعها في بيلاروس التي كانت تابعة للاتحاد السوفيتي السابق، حيث لا تزال الذاكرة الجمعية لكارثة انفجار المفاعل النووي في تشيرنوبيل بجمهورية أوكرانيا المجاورة عام 1986 ماثلة في الأذهان بعمق، ولم تسفر الاحتجاجات المحلية المناهضة لإقامة المنشأة النووية الجديدة عن أي تغيير في الخطة الحكومية لتشييدها .
ولعدة سنوات ظلت المحطة النووية محورا للخلاف بين بيلاروس وجارتها جمهورية ليتوانيا، وهي عضو في كل من الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي (ناتو)، حيث يقع هذا المبنى العملاق على مسافة 40 كيلومترا فقط من العاصمة الليتوانية فيلنيوس.
وإذا كنت في العاصمة فيلنيوس فيمكنك إذا كان الجو صافيا أن ترى برجي التبريد بالعين المجردة.
ووصف البعض هذه المحطة النووية بأنها بمثابة “مسمار في نعش ليتوانيا”، مشيرين إلى أكثر الاحتمالات سوءا حيث يمكن أن يؤدي وقوع حادث نووي بالمحطة إلى تدمير هذه الدولة الصغيرة .
ويصر المسؤولون في بيلاروس على أنه تم مراعاة جميع تدابير السلامة في المحطة النووية، ويصفونها بأنها إحدى أحدث المحطات من نوعها في العالم.
واعتبر الاتحاد الأوروبي أن هذه المحطة النووية آمنة، كما فحصتها الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وذلك وفقا لما يقوله نائب وزير الطاقة في بيلاروس ميخائيل ميخاديوك أثناء جولة قام بها في موقع المشروع .
وتقوم شركة الطاقة الذرية الحكومية الروسية “روس آتوم” بتشييد المحطة، ويأتي ما نسبته 90% من التمويل من خطوط ائتمانية، ويقدر أن بيلاروس تلقت ما يصل إلى عشرة مليارات دولار كقروض لتنفيذ المشروع.
ومن المقرر أن تقوم روسيا وهي حليف وثيق الصلة لبيلاروس بتزويد المحطة بقضبان الوقود النووي إلى جانب الخبرة الفنية لتشغيل وإدارة المحطة ، وتقوم بيلاروس في الوقت الحالي بتوليد أكثر من 95% من احتياجاتها من الكهرباء باستخدام الغاز الطبيعي الذي تستورده من روسيا.
وترى ليتوانيا أن نفوذ روسيا في هذا المشروع يثير التساؤل مثلما هو الحال مع المخاوف الأمنية.
كما أن فيلنيوس ترى أن مشروع المحطة النووية في بيلاروس تمثل انقلابا جيوبوليتيكيا من جانب موسكو أكثر من كونه مشروعا للتعاون الاقتصادي، مثله في ذلك مثل التوسع المخطط له في خط أنابيب الغاز الطبيعي الروسي عبر بحر البلطيق ليصل إلى ألمانيا، والمعروف باسم “نورد ستريم 2”.
وفي هذا الصدد يقول ساوليوس سكفرنليس رئيس وزراء ليتوانيا في مقابلة العام الماضي مع شبكة الإعلام المتخصصة في الشؤون الأوروبية “يوراكتيف”، إن خط الأنابيب الروسي يعد “محاولة لإحداث انقسام بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي”.
ويساند عدد كبير من دول الاتحاد الأوروبي مشروع المحطة النووية، غير أن بعض الدول الصغيرة تعارضه ولكنها لا تستطيع أن تقنع بقية الأعضاء بتغيير موقفها الداعم للمشروع.
وتدفع لتيوانيا التي تقاتل ضد تنفيذ المشروع منذ سنوات بدون نجاح، بأن محطة الطاقة النووية تشكل تهديدا لأمنها.
وأعرب كثير من مواطني ليتوانيا عن أملهم في الحصول على مساندة أقوى من الحلفاء، خاصة من ألمانيا التي تتمتع بنفوذ قوي داخل الاتحاد الأوروبي، والتي أعلنت التوقف التام عن الاعتماد على المفاعلات النووية في تأمين احتياجاتها من الطاقة بعد الكارثة النووية في محطة فوكوشيما باليابان.
غير أن موقف ألمانيا إزاء هذه المسألة لا يزال مبهما ، وفي هذا الصدد قالت رئيسة وكالة الطاقة الألمانية كريستينا هافركامب “بوسع كل الدول ذات السيادة أن تقرر لنفسها طرق إنتاج احتياجاتها من الطاقة، وأضافت أنه مادام قد تم تلبية جميع الالتزامات ومعايير السلامة فيمكن لألمانيا أن تقبل بإقامة محطة نووية .
ويرى بعض الخبراء أن الانتقادات التي توجهها ليتوانيا لهذه المحطة ليست موضوعية، ويقولون إن ليتوانيا اضطرت إلى إغلاق محطة “إجنالينا” للطاقة النووية التي أقامها الاتحاد السوفيتي السابق، بعد أن تعرضت لضغوط من جانب الاتحاد الأوروبي عام 2009، حيث أن هذه المحطة من نفس نوع محطة تشرنوبيل.
وكنتيجة لهذا الإغلاق اضطرت ليتوانيا إلى التحول إلى الغاز الطبيعي القادم من روسيا، وفي حالة وصول الكهرباء رخيصة التكلفة التي يتم توليدها عن طريق الطاقة النووية من دولة بيلاروس المجاورة، فإن هذا التطور من شأنه أن يؤدي إلى تراجع الاستقلال الذاتي لليتوانيا في قطاع الطاقة.
وكخطوة وقائية فرضت ليتوانيا حظرا على استيراد الكهرباء من محطة أوستروفيتس.
وبدد ميخاديوك هذه المخاوف، وقال “إن هدفنا من إقامة المحطة النووية هو أن نصبح أكثر قدرة على المنافسة، والسوق وحدها هي التي ستحدد من الذي سنبيع له الكهرباء ومن الذي لن نبيعها له”. (د ب أ)