أقلام يورابيا

آخر النبلاء

أدهم عامر

أدهم عامر

عندما دعيَ إلى “قصر النبلاء” وهو مطعم شهير في دمشق، توجه إلى المطعم بعد أن سبقه إلى هناك أساتذة، وسياسيون، و محدثوا نعمة .. دخل بسيارته القديمة المتهالكة، فاعترضه الحارس قائلاً: إلى أين ؟ هنا قصر النبلاء !

فما كان منه إلاّ أن ابتسم وقال ساخراً: “شايف كل الناس اللي جوا؟ أنا الوحيد النبيل بينهم”.

ومع أنه لم يُعِرْ طوال حياته هذا التصنيف أدنى اهتمام، لكنه قالها ساخراً من هذه المفارقة المضحكة.

إنّه المفكر الكبير صادق جلال العظم، سليل إحدى أعرق العائلات الأرستقراطية في بلاد الشام.

ولد صادق عام ١٩٣٤ وترعرع في بيت العظم الكبير في أجواء ليبرالية، فقد كانت أمه من طليعة النساء اللواتي دافعن عن (السفور والاختلاط)، وكانت تعامل صادق، وأخيه، وأخته بالمساواة التامة حتى بالميراث.

آل العظم أساساً هم من الأتراك الذين جاؤوا مع ( الفتح العثماني ) كقادة عسكريين، ثم استقروا وأصبحوا أصحاب إقطاعيات.

درس صادق العظم المرحلة الأولى في ” مدرسة الفرير ” بدمشق، ثم تابع الدراسة بعد جلاء فرنسا في مدرسة الملك فيصل في منطقة عرنوس في دمشق، وبعدها في المدرسة الإنجيلية في صيدا بلبنان، ثم التحق بالجامعة الأمريكية ( قسم الفلسفة ) وبعدها تابع الدراسات العليا في جامعة « ييل Yale » في الولايات المتحدة، وقد تخرج من هذه الجامعة بشهادة دكتوراه (عن برغسون عام ١٩٦٤).

تزوج صادق زميلته الفلسطينية « فوز طوقان » ابنة المربي الأستاذ أحمد طوقان، رئيس وزراء سابق في الأردن، أما عمها فهو الشاعر إبراهيم طوقان، وعمتها فدوى طوقان، و استمر الزواج إلى أن توفيت الزوجة عام ٢٠٠٠.

ماذا عن موقفه من الثورة والنظام؟

توق العظم إلى الحرية دفعه للإنحياز بحماسة إلى تطلعات الشعب السوري وسعيه للانعتاق من نير سلطة الفرد الواحد وما تستجره من مظالم ومفاسد :

“الثورة السورية هي ثورة، سواء “تأسلمت” أو “تعلمنت”، هي كاشف أخلاقي وإنساني وثقافي لكل البديهيات القديمة. هي ثورة ضد التبرير والقبول الكاذب لواحد من أكثر الأنظمة الشمولية تفسخاً وعنفاً. كل من هو منخرط في جوهرها لا يخشى منها ولا يخشى عليها. كل من هو جالس على حافتها… سيصيبه الرعب منها. أصلا الرعب واحد من أهم سمات الثورات. الثورة السورية هي من أعمق ما قامت به جماعة بشرية في منطقة جغرافية على امتداد العالم. إيقافها مستحيل، ببساطة لأنها نضجت بفعل الزمن، ولا أحد يستطيع إيقاف الزمن. وأنا العبد الفقير لله وحرية الإنسان سأبقى معها… حتى لو التهمتني، حتى لو كنت من ضحاياها… حتى لو دفعت الثمن غالياً جداً لا يقل عن حياتي… سأبقى منحازاً لها ما دمت قادراً على التنفس”

ومع ذلك لم يسلم الرجل من ” بذاءة ” جماعة الإخوان المسلمين لأنهم لن يغفروا له ما ذهب إليه من شك وطعن في مسلماتهم من خلال كتبه ومسيرته العلمية، والعملية، وخاصة كتابه الأشهر الذي أنجزه عام ١٩٦٩ ( نقد الفكر الديني ) فإلى جانب الكراهية والأحقاد، واعتقادهم الزائف بامتلاكم الدائم لناصية اليقين، نجدهم يعطون أنفسهم الحق لتصنيف الناس بين كافر و مرتد وآبق وملعون وخنزير … إلى ما هنالك من أوصاف ينضحونها من قعر ذواتهم المهشمة.

في لندن، عاصمة الضباب، يستقر زهير سالم، أحد أعضاء جماعة ( الإخوان المسلمين )، يعمل كمشرف ومدير لما يسمى ( مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والإستراتيجية )!

لا أحد يعلم من يُمَوِّل هذا المركز، لكن معظمنا يدرك توجهات الإخوان المسلمين والفلك الذي يدورون به.

آخر “الإبداعات الحضارية” لصاحب هذا المركز، هو سلسلة أسماها : ( الآبقين ) ، تناول فيها شخص المفكر صادق جلال العظم بوصفه : ( آبقاً ) والوصف فيه من التباسات المعنى بحيث يختلط بين ” العبد الهارب من طاعة سيده ” و ” المتنكر لوطنه أو أمته أو دينه، أو كل ذلك “، كما طاب للمدعو سالم وصف الدكتور العظم على صفحة موقعه، ثم اضطر إلى ” لحس هذه الدراسة الحضارية الإستراتيجية القيِّمة ” كونها تفضح توجهات ( الإخوان الثعابين ) التي تدعوني دوماً للتساؤل : كيف لهذه المخلوقات أن تستمر بالعيش دون أن تموت تأثراً بفائض سمومها الداخلية؟!

نظرة واحدة على موقع الثعبان هذا، كفيلة بإجلاء المُخَبّأ، فهو يزخرفه في مُسْتَهَلِّه، وفي أعلى الصفحة بعبارة: ( قولوا للناس حُسْناً ) عبارة هشة ومراوغة، وهي وإن طُليت على عجل فوق شعارهم الشهير التي يستظِّل بسيفين: ( وأعدّوا )، لكنها لم تعد تنطلي على أحد !

هكذا هم دوماً، يتسترون بالتقيّة وبفقه الضرورة، ومستعدون للتحالف مع ( الشيطان ) في سبيل الوصول إلى ( أوهامهم )، فمعظمنا يعلم بأن لندن هي أحد المطابخ الرئيسية التي يتم فيها رسم سياسات وتقرير مستقبل الشرق الأوسط، لندن التي لعبت دوراً رئيسياً في الثلاثينات من القرن الماضي في إنشاء وتمويل ما يسمى بجماعة ( الإخوان المسلمين ) تواصل لغاية الآن مدّ هذه الجماعات بالأكسجين وبكل أسباب البقاء، كيف لا وهذه الجماعات المتطرفة، تُشكل خزاناً لا ينضب من ” الجهاديين ” الذين يتوجب على ” الغرب المتحضر ” التدخل في شؤون دول الشرق الأوسط بحجة مكافحتهم، فهم بمثابة ( مسمار جحا ) الذي أصر أن يدقه في بوابة بيته الذي باعه وخرج منه، ولكنه ما لبث أن عاود الرجوع للبيت، مرة بعد أخرى، بحجة أنه يريد أن يطمئن على ” مسماره “.

ولأن القيء الفكري لزهير سالم وأمثاله، يُرسخ الصورة النمطية السلبية السائدة للعربي، فسوف تحرص لندن على استضافة هؤلاء النكرات، وتوفير المنابر لهم، ليكونوا في طليعة ” جوقة الهدم ” التي تتصدر المشهد في الساحة العربية، وترفع ألوية الانحطاط بكل ما في الجاهل من فخر وحماسة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق