السلايدر الرئيسيتحقيقات
تظاهراتُ بيروت… وعواقبُ الانزلاق إلى لعبة الشارع في الحالة اللبنانيّة الراهنة!
جمال دملج
ـ بيروت ـ من جمال دملج ـ على رغم أنّ الأوضاع المعيشيّة المزرية التي وصل إليها اللبنانيّون على كافّة المستويات السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة باتت تجعل من أيِّ تحرُّكٍ مطلبيٍّ في الشارع أمرًا مشروعًا يندَرج في سياق الضرورات الملحَّة واللازمة لإيصال الأصوات المخنوقة إلى آذان كلّ من يعنيهم الأمر من المسؤولين الحكوميّين في إدارات الدولة على اختلاف مجالات تخصُّصاتهم ومناصبهم الرسميّة، وللتنفيس بالتالي عن الاحتقان المتراكم والمطبِق فوق الصدور، فإنّ موجة التظاهرات الشعبيّة التي شهدتها العاصمة بيروت في الآونة الأخيرة، وآخرها امس الاحد الأحد، ما زالت تدلُّ بوضوحٍ إلى افتقارها التامّ لإبرةِ بوصلةٍ تنظيميّةٍ هادِفةٍ من شأنها أن تحدِّد مسارها على الطريق الصحيح، ولا سيّما أنّ نزعة الإخلال بالأمن التي تستبدُّ بسلوكيّات المتظاهرين عن سابقِ عزمٍ وتصميمٍ، معطوفةً على محاولاتهم المستميتة لجرِّ عناصر القوى الأمنيّة إلى صدامٍ مباشِرٍ لأغراضٍ دعائيّةٍ مشبوهةٍ، سرعان ما أدَّت إلى تجريد الشعارات المطلبيّة المرفوعة من سِمات وهجها، ناهيك عن أنّ مجرَّد رفْعِ شعارٍ فضفاضٍ مثل “الشعب يريد إسقاط النظام” يبدو كافيًا بحدِّ ذاته لكي يثير الريبة والتوجُّس في أوساط العاقلين ممّن لا يزالون يتذكَّرون عواقبه الوخيمة على الدول المجاوِرة، وخصوصًا في سوريا التي كان رئيسها بشّار الأسد قد قال ذاتَ يومٍ إنّ سبب ما شهدَته بلاده من مؤامراتٍ يعود إلى رفضها الموافقة على مشروعٍ قطريٍّ لنقل الغاز عبْر أراضيها إلى تركيا، ومن ثمّ إلى دول الاتّحاد الأوروبيّ.
وإذا كانت كافّة شواهد الأعوام السبعة الماضية قد أثبتَت بما لا يترك أيَّ مجالٍ للشكّ مدى النجاح اللافت الذي حقَّقته المؤسّسة العسكريّة اللبنانيّة في التصدّي لما بذلَته بعض الدول الإقليميّة من محاولاتٍ لإغراقِ لبنان في مستنقع صراعات المنطقة في خضمِّ معمعةِ ما اتُّفِق على تسميته مجازًا بـ “ربيع العرب”، وخصوصًا بعدما تمكَّن جنود الجيش وعناصر قوى الأمن وشعبة المعلومات وأمن الدولة من تفكيكِ خلايا التنظيمات التكفيريّة الإرهابيّة في الداخل ودحرِ مقاتليها إلى ما وراء تخوم الحدود مع سوريا في الخارج، فإنّ تزامُن بدء مرحلة الانفراجات الوشيكة جدًّا على الساحة السوريّة مع ما يُشاع عن دورٍ محوريٍّ من المفترَض أن يلعبه لبنان في عمليّة إعادة الإعمار هناك، وكذلك مع التركيز الواضح في الآونة الأخيرة على التبشير باقتراب موعد وضْع قطار الاستفادة من الثروات النفطيّة والغازيّة اللبنانيّة على سكّة التنفيذ، لا بدَّ من أن يجعَل البلد بأكمله محطَّ أنظار الطامعين في مجال إدارة الأزمات وتداعياتها، سواءٌ في أوقات تفجيرها أم أثناء مراحل تسويتها، ولا سيّما بعدما أصبح هذا المجال قطاعَ عملٍ متكاملًا لا يختلف اثنان على أنّه يدرُّ على المستثمرين فيه أرباحًا طائلةً في شتّى الأحوال والظروف.
على هذا الأساس، ومع الأخذ في الاعتبار أنّ لبنان كان قد شهد عام 2015 سلسلةً من الحراكات المدنيّة التي باءت بالفشل الذريع بعدما تداخلَت فيها الأصابع الخارجيّة أثناء مرحلة الشغور الرئاسيّ مع إصرار المؤسّسة العسكريّة اللبنانيّة على عدم التهاوُن في محاربة الإرهاب، يُصبح في الإمكان القول بكلِّ تجرُّدٍ إنّ موجة التظاهرات التي نشهدها في هذه الأيّام قد تكون امتدادًا تلقائيًّا لتلك الأصابع الخارجيّة في مساعيها الرامية إلى تعكير المياه الداخليّة بغيّة الإيحاء بقدرتها على الاصطياد بسهولةٍ فيها، خدمةً لعواملَ استثماريّةٍ بحتةٍ، الأمر الذي يُعتبَر فخًّا حقيقيًّا يستهدف إيقاع اللبنانيّين في شِراكه، تمهيدًا لإحكام قبضة الآخرين عليهم، وهو الفخُّ الذي حاول الإسرائيليّون مؤخَّرًا جرَّهم إليه عن طريق ابتكار قضيّة الأنفاق المزعومة لـ “حزب الله” في الجنوب من أجل دقِّ إسفينٍ ما بين الحزب وما بين عهْد الرئيس العماد ميشال عون، قبل أن تؤول هذه المحاولة نهار الأربعاء الفائت إلى الفشل في كلٍّ من لبنان ومجلس الأمن الدوليّ على حدٍّ سواء.
وإذا كان اثنان لا يختلفان على أنّ رغبة الخارج الدوليّ والإقليميّ في استهداف العلاقة المتينة التي أسفرت عن التوصُّل إلى التسوية الرئاسيّة قبْل عاميْنِ ونيِّفٍ من الزمان لم تعُدْ خافيةً على أحدٍ، فإنّ اثنين لا يمكن أن يختلفا أيضًا على أنّ النزعة الخارجيّة لضرب الاستقرار الداخليّ النسبيّ الذي تحقَّق جرّاء هذه التسوية هي التي تشكِّل المبتدأ والخبر لكافّة تحرُّكات الشارع في الوقت الراهن، الأمر الذي يستوجب التنبيه من مخاطر الانزلاق إليه، ولا سيّما إذا وضعنا في الحسبان أنّ مجرَّد إلقاءِ نظرةٍ واحدةٍ إلى ما حصل اليوم في وسط بيروت، بدءًا من محاولة المتظاهرين إزالة العوائق الحديديّة من أمام مقرّ مجلس الوزراء في السراي الحكوميّ، مرورًا بإقدامهم على رشق عناصر القوى الأمنيّة بعبوات المياه، وانتهاءً بتكسير وإحراق مستوعبات النفايات وأحواض الزراعة ومحاولة قطع الطرقات، لا بدَّ من أن يكون كافيًا لإقناع الرائي بأنّ هذه الممارسات، وإنْ كانت قد جرَّدَت الشعاراتِ المطلبيّة المحِقَّة من عناصر وهجها، ولكنّ الطامة الكبرى فيها تتمثَّل في أنّها بدَت بكافّة تجلّياتها كما وأنّ الهدف الأساسيّ من ورائها يتركَّز على ضرب الاستقرار في بلدٍ أكثر ما يحتاج إليه أبناؤه في الوقت الحاليّ هو الاستقرار… وحسبي أنّ ما على اللبنانيّين في هذه الأثناء سوى أخْذ الحيطة والحذر من عواقب الانزلاق إلى لعبة الشارع، والاستفادة من تجاربِ وعِبَرِ مغامراتِ الشارع في الدول المجاوِرة، وتحديد إبرةِ بوصلتِهم لمؤازرةِ عهدٍ من واجِبهم أن يلتفّوا حوله موحَّدين أمام الأطماع والتحدّيات الداخليّة والخارجيّة التي يواجهها، وليس أن يلتفّوا عليه… والخير دائمًا من وراء القصد.