عريب الرنتاوي
استيقظت عواصم المنطقة والعالم ذات الصلة، على وقع قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب بسحب قوات بلاده من كافة الأراضي السورية، في مهلة زمنية قصيرة نسبيا، لا تتعدى المئة يوم…
اكتسبت الخطوة، التي طالما تحدث عنها ترامب ولوّح بها، طابع “المفاجأة المتوقعة”، إذ لم يكن أحد ليصدق بأن واشنطن ستتخلى عن آخر أوراق القوة التي تتمتع بها في سوريا، في لحظة احتدام المواجهة مع كل من روسيا وإيران، وفي مناخات الفتور وانعدام اليقين في العلاقات الأميركية ـ التركية.
قبل القرار
من ريك تيلرسون، مرورا بمايك بومبيو وانتهاء بجيمس جيفري، بنت واشنطن استراتيجيتها في سوريا على ركائز ثلاث:
- إنهاء تنظيم “داعش” عن الجغرافيا السورية، وضمان عودته كمصدر لتهديد الأمن والاستقرار الإقليمي والعالمي.
- تقليص نفوذ إيران، الأمني والعسكري على وجه الخصوص في سوريا، والحيلولة دون قيام “حزام بري إيراني/شيعي” ممتد من قزوين حتى الشاطئ الشرقي للبحر المتوسط.
- ضمان عملية سياسية في سوريا، أكثر توازنا، تحول دون عودة النظام لممارسة الحكم في سوريا بالوسائل والأدوات القديمة، حتى وإن ظل بشار الأسد على رأس السلطة لفترة من الوقت.
ومن أجل إنجاز أهداف السياسة الأميركية في سوريا، سعت واشنطن إلى تأمين عناصر القوة والاقتدار التي تمكنها من تحقيق هذه الأهداف. فهي عملت ميدانيا، على تدريب أكثر من أربعين ألف مقاتل محلي في شمال شرق سوريا وفي محيط قاعدة “التنف” في جنوبها الشرقي كذلك.
وهي لوّحت بإعادة إنتاج سيناريو مناطق حظر الطيران الذي استخدم لحماية الأكراد بعد غزو نظام الرئيس العراقي صدام حسين للكويت عام 1990، من أجل توفير الحماية لقوات سوريا الديمقراطية (قسد).
وهي عملت سياسيا على التلويح بسحب اعترافها الضمني والمشروط، بمساري أستانا ـ سوتشي، حيث رسم جيمس جيفري موعدا أخيرا لسحب هذه الاعتراف، وإعادة الملف السوري إلى “مسار جنيف”، في حال فشل الثلاثي الضامن لمسار أستانا في إطلاق عملية سياسية متوازنة، بدءا من تشكيل وتفعيل عمل لجنة دستورية لسوريا، متفق عليها من قبل مختلف الأطراف.
شكلت عناصر الاستراتيجية الأميركية هذه، وأهدافها ووسائلها، مصدر قلق لروسيا التي كثفت مؤخرا من انتقاداتها للوجود العسكري الأميركي في شمال شرق سوريا، وصفته بـ”غير شرعي”، وعدّته مصدر تهديد لوحدة سوريا وسيادتها، مثلما كانت مصدر قلق وتحسب لتركيا التي تخشى قيام كيان كردي انفصالي على حدودها الجنوبية وهددت على لسان رئيسها باجتياح منبج ومناطق شرق الفرات حتى بوجود قوات أميركية على الأرض السورية.
والمؤكد أن هذه الاستراتيجية كانت مبعث تخوف لدى إيران وحلفائها في سوريا ولبنان، التي طالما راهنت على تعبيد “حزام بري” على امتداد جغرافيا ما يسمى بـ”محور المقاومة والممانعة”.
ولقد سمحت هذه الاستراتيجية لحلفاء واشنطن الأقرب والأوثق في المنطقة، بالتصرف بناء على فرضية “الوجود طويل الأمد” للقوات الأميركية على الأرض السورية.
بنت إسرائيل لنفسها استراتيجية “منع إيران من بناء مراكز وقواعد ارتكاز” في سوريا، وهي مهمة بدت صعبة قبل القرار الأميركي الأخير، وستصبح أكثر صعوبة وتعقيدا بعده.
أما السعودية والإمارات، وفي سياق صراعهما مع المحور التركي ـ القطري ـ “الإخواني” فقد كثفتا دعمها لقوات سوريا الديمقراطية وعملتا على حشد الدعم والتسليح والتدريب للعشائر العربية في مناطق سيطرة “قسد”، ودائما لإرباك أنقرة وإشغالها على طول حدودها الجنوبية، وهو الأمر الذي يفسرـ من ضمن عوامل أخرى ـ الغضب التركي على الدولتين، والذي وجد في جريمة اغتيال الصحافي السعودي جمال خاشقجي، سانحة لتسديد الصاع صاعين، ضد ما تعتبره أنقرة، دعما خليجيا للمحاولة الانقلابية الفاشلة (2016) وحربا على “الليرة التركية” ومساسا بأمن تركيا ووحدتها الترابية.
في مسألة التوقيت
في مسألة توقيت اتخاذ القرار، يرى مراقبون أن الرئيس دونالد ترامب، اختار التوقيت الأسوأ للإعلان عن هذا القرار من منظور مصالح حلفاء واشنطن وحساباتهم. فهو جاء قبيل ساعات من آخر إحاطة لمجلس الأمن الدولي سيؤديها الموفد الأممي المنتهية ولايته ستيفان ديمستورا حول مآلات الحل السياسي في سوريا والجهود الرامية لتشكيل اللجنة الدستورية والخلافات بشأن تركيبتها وتفويضها والجهة الراعية لعملها.
وجاء القرار قبل ساعات أيضا من التئام “المجلس الاستراتيجي” التركي ـ الإيراني في دورته الخامسة، برئاسة كل من رجب طيب أردوغان وحسن روحاني في أنقرة، والمقرر أن ينصب البحث فيه على مستقبل العلاقات الثنائية بين الجانبين، ورفع مستوى التبادل الاقتصادي والتجاري إلى عشرين مليار دولار سنويا، فضلا عن بحث معمق في الأزمة السورية، حيث تلتقي مصالح الطرفين حول رفض قيام كردي انفصالي في شمال سوريا، وتفترق حول عدد آخر من الملفات، من بينها مستقبل الوجود العسكري التركي في سوريا.
كما جاء القرار بعد أيام قليلة من عملية “درع الشمال”، التي أطلقتها الحكومة الإسرائيلية، بهدف الكشف عن “أنفاق هجومية” لـ”حزب الله”، تمتد من الأراضي اللبنانية إلى الداخل الإسرائيلي، تلك العملية التي ألقت الضوء مجددا على فصل جديد من فصول الصراع الإسرائيلي ـ الإيراني في سوريا ولبنان على حد سواء.
والقرار يأتي في ذروة عمليات الكرّ والفرّ بين قوات “قسد”، أقرب حليف لواشنطن في سوريا من جهة وتنظيم “داعش” الإرهابي على جبهة هجين وجوارها وفي حوض الفرات الجنوبي من جهة ثانية.
كما أنه يأتي وسط حشود عسكرية تركية كثيفة، واستدعاء أنقرة لمقاتلين من “المعارضات السورية” المحسوبة على أنقرة، توطئة لهجوم على مناطق شرق الفرات، فيما ملف “منبج” ما زال فوق صفيح ساخن.
والخلاصة أن القرار الأميركي بالانسحاب الكامل والسريع من سوريا، قد هبط بردا وسلاما على كل من موسكو وطهران ودمشق والضاحية الجنوبية لبيروت، وخلق حالة من الارتباك والانزعاج في إسرائيل وخلّف إحساسا عميقا بالخذلان والتخلي في أوساط الحركة الكردية، وتسبب بخيبة أمل في الرياض وأبو ظبي، اللتان استظلتا بالقواعد الأميركية في شمال شرق سوريا، لممارسة أوسع عمليات تعبئة وتحشيد ضد تركيا في تلك المناطق.
في تفسير القرار
لا أحد في هذه المنطقة، لديه تفسير “مقنع” للقرار الأميركي وتوقيت اتخاذه والكشف عنه، مع أن تفسيرات عديدة صدرت عن مراقبين ومحللين بهذا الصدد. بعضهم ردّ القرار إلى تفاهمات تركية ـ أمريكية، توجت في المكالمة الأخيرة بين ترامب وأردوغان، وتضمنت إبلاغ الجانب التركي بقرار واشنطن سحب قواتها من سوريا، وهو ما رأى فيه الزعيم التركي مؤشرا إيجابيا، دون أن يذهب بعيدا في الإفصاح والتوضيح لماهية التفاهمات التي يمكن أن يكون الجانبان قد توصلا لها.
هل “باعت” واشنطن أكراد سوريا لتركيا؟ سؤال يبدو مطروحا بقوة في عواصم المنطقة، التي تعرف تمام المعرفة، حجم الكراهية التي تكنها أنقرة للانفصاليين الأكراد، وتصنيفها لهم كجماعة إرهابية، أشد خطرا على أمن تركيا واستقرارها ووحدتها، من تنظيم “داعش” ذاته.
بعض آخر من المراقبين، ذهب بعيدا في “الخيال”، واقترح تفسيرا يدرج القرار الأميركي في إطار استعداد أميركي لتوجيه ضربات عسكرية واسعة النطاق لإيران، بعد أن يتأكد لواشنطن فشل نظام العقوبات المضروب على طهران في تغيير سلوكها.
أصحاب هذه الفرضية، يعتقدون بأن سحب القوات الأميركية من سوريا، هو السبيل الوحيد لمنع تحولها إلى “أهداف رخوة” لإيران وحلفائها في حال اندلعت المواجهة المباشرة بين الجانبين. ويفترض هؤلاء أن اشتداد حدة الأزمات التي تواجه الرئيس ترامب في بلاده، على خلفية التحقيقات متعددة المسارات التي تخضع لها حملته الانتخابية ومقربون منه، وقد تطاله شخصيا، إنما ترجح “سيناريو الهروب للأمام”، وتعزز احتمالات المواجهة مع إيران خارجيا، لتفادي الأسوأ داخليا، حتى وإن قاد ذلك، إلى إطلاق أوسع عملية خلط للأوراق والأولويات والتحالفات في المنطقة.
حالة من الحيرة في تفسير القرار الأميركي تسود المنطقة، ولسان حال كثرة من قادتها ومحلليها ومراقبيها يقول: إنها السياسة الأميركية في عهد ترامب، حبلى بالمفاجآت و”اللامعقول”… تقول شيئا وتفعل نقيضه… تعطي مؤشرا للتوجه يسارا، فإذا بها تنعطف نحو اليمين في اللحظة الأخيرة، ومن دون مقدمات كافية.
ما بعد القرار
الرابحون والخاسرون جراء القرار الأميركي بشأن سوريا، معروفون تمام، وتصريحاتهم العلنية تدلل عليهم؛ إنها لحظة التتويج الرسمي للدور الروسي المهيمن في سوريا، وهي لحظة انفراج لكل من طهران ودمشق والضاحية الجنوبية.
وهي لحظة خيبة وانعدام يقين في كل من إسرائيل والسعودية والإمارات، بيد أنها “الصدمة الكبرى” للحركة الكردية السورية على نحو خاص.
على المستوى التكتيكي المباشر، لم يعد لدى أكراد سوريا سوى واحد من خيارين اثنين، وعليهم اختيار طريقهم، بأسرع مما يُظن ومما كانوا يعتقدون.
فإما تفعيل “القناة الروسية” للوصول إلى تفاهمات مع دمشق، تنجيهم من الغضب التركي والتربص الإيراني، وتسهيل نشر قوات الجيش السوري في مناطق نفوذهم وسيطرتهم، وتحت رعاية “قاعدة حميميم”، وإما الاستعداد لمواجهة شاملة مع تركيا، قد تبدأ بمناوشات و”حرب وكالة” مع فصائل المعارضة السورية المحسوبة على أنقرة، وهي التي بدأت تطلق التهديد تلو الوعيد بإلحاق هزيمة نكراء ضد “الانفصاليين” و”العملاء.
وثمة سباق سيبدأ قريبا، إن لم يكن قد بدأ بالفعل لـ”ملء فراغ” واشنطن في مناطق الشمال الشرقي السوري، وإغلاق ملف منبج. وقد يفضي سباق كهذا، إلى تهديد العلاقة بين أطراف المثلث الضامن لمسار أستانا، فتركيا لن تترك النظام السوري وحلفائه، يملؤون الفراغ، وإيران تنظر للمشهد بأكثر من عين، واحدة تتركز على الملف الكردي وأخرى متسمرة على مجالها الحيوي الأكبر والأبعد، أما دمشق فتخشى أطماعا تركية استراتيجية في مناطق غنية بالمياه والثروات ومصادر الطاقة، والأكراد يتحسبون لإقدام أنقرة على إعادة “هندسة جغرافيا المنطقة وديمغرافيتها”، فيما “المايسترو” الروسي، يراقب رقعة الشطرنج عن كثب، قبل أن يقرر نقلته التالية.
الحرة