ليونيد بيرشيدسكي
للوقوف على كيفية عمل سياسات ما بعد الحقيقة يرجى إمعان النظر إلى بلجيكا، تلك الدولة التي مرت بها فترة قاربت العامين الكاملين من دون حكومة في البلاد. وكان ائتلاف رئيس الوزراء تشارلز ميشال قد انهار لأن حكومته وقّعت على اتفاق مع الأمم المتحدة كالحبر على الورق، ذلك الذي تحول إلى مادة سخرية لاذعة من قِبل الساسة المناوئين للمهاجرين.
وتحمل وثيقة الاتفاق عنوان «الميثاق العالمي للهجرة الآمنة والمنظمة والقانونية»، الذي جرى التوقيع عليه في المغرب خلال الشهر الحالي. ولقد رفضت الولايات المتحدة الأميركية، وعدد من البلدان الأخرى، أغلبها في أواسط أوروبا وشرقها، التوقيع على الاتفاق.
ولقد عارضت الأحزاب اليمينية الاتفاق بشدة، وأطلقت مزاعم غير حقيقية بشأنه. ويقولون إن الاتفاق سوف يصم انتقادات الهجرة بأنها غير قانونية، ويجبر الدول على الاعتراف بالمهاجرين كافة بصفتهم لاجئين سياسيين، ويقدح في سيادة الدول من خلال فرض سياسات موحدة للهجرة على البلدان كافة. وليس هناك شيء صحيح من هذه الادعاءات: تريد الأمم المتحدة من الدول القومية أن تتعامل برفق مع المهاجرين، وتطرح بعض المقترحات بشأن كيفية فعل ذلك من دون الحاجة إلى اتخاذ أي إجراءات محددة. ولا تعتبر الوثيقة ملزمة لأي دولة من الدول بموجب القانون الدولي.
لكن في بلجيكا، كان التحالف الفلامندي الجديد – وهو الحزب الشعبوي الفلامندي بقيادة بارت دي ويفر عمدة مدينة أنتويرب – مصرّاً على أنه لا ينبغي على الحكومة التوقيع على الاتفاق في المقام الأول. ولقد أطلق التحالف على حكومة السيد ميشال، الذي كان التحالف جزءاً منها، لقب «حكومة مراكش البلجيكية».
وأعلن ثيو فرانكلين، نجم «تويتر» في التحالف الفلامندي الجديد ووزير الهجرة في حكومة السيد ميشال، أن حزبه يرغب في ألا تكون له علاقة بالأمر تماماً، نظراً لأن الاتفاق مؤيد بشدة لملف الهجرة. كما زعم أن المحاكم الأوروبية قد تشرع في إصدار الأحكام التي تستند إلى هذا الاتفاق – وهو الادعاء الذي يفتقر إلى أي دليل يؤيده. وفي عطلة نهاية الأسبوع الماضي، تحولت الاحتجاجات الشعبية في بلجيكا ضد الاتفاق المذكور من السلمية إلى العنف.
وبلجيكا، كما يجب أن توصف، لا تحظى بتاريخ سعيد حيال الهجرة. فمنذ أن كانت قوة استعمارية غاشمة ومجحفة، بل وذات تاريخ من الإبادة الجماعية أيضاً، لم ترحّب الأراضي البلجيكية بالمهاجرين أبداً، وكان سجلها فيما يتعلق بالاندماج والاستيعاب ضعيف للغاية.
ومن بين سكان البلاد البالغ تعدادهم 12 مليون نسمة هناك 3 ملايين نسمة من خلفيات مهاجرة – ونصف مليون قادم من دول أخرى ضمن الكتلة الأوروبية. ويواجه أولئك القادمون من بلدان غير أوروبية صعوبات كبيرة في بلجيكا؛ إذ هناك نسبة 60 في المائة من المهاجرين من خارج الاتحاد الأوروبي في أدنى شريحة من شرائح المجتمع من حيث الدخل، ويعيش نصفهم في ظروف سكانية مدقعة، و70 في المائة منهم من النساء العاطلات عن العمل.
واقتراح تصحيح عقود مطولة من السياسات الداخلية الفاشلة هو من المقترحات الأكثر صعوبة وصرامة من السماح لعدد قليل من الناس بدخول البلاد؛ ولذلك ركز حزب التحالف الفلامندي الجديد على «الهجرة المنظمة».
ومع ذلك، فإن انهيار الائتلاف الحاكم في البلاد لا يتعلق بالأساس بملف الهجرة بقدر ما يتعلق بالسياسات الداخلية بين الأحزاب.
كانت حكومة تشارلز ميشال تمثل تحالفاً غير مستقر لحركته الإصلاحية الناطقة بالفرنسية، وثلاثة أحزاب فلامندية، بما في ذلك حزب التحالف الفلامندي الجديد، الذي لن يعمل في المعتاد مع حزب والوون مثل حزب السيد ميشال. وعلى عكس التوقعات بحدوث أزمة سياسية مبكرة، إلا أن مجلس الوزراء البلجيكي واصل العمل، ونجح في إحراز النمو الاقتصادي المطرد، وتخفيضات الضرائب على المواطنين، وانخفاض معدلات البطالة، وتقليص العجز في الموازنة. ولقد ساهم حزب التحالف الفلامندي الجديد، ولا سيما وزير المالية يوهان فان أوفرفيلد، بكل إيجابية في هذا الأداء السياسي الحكومي القوي.
لكن الحزب لم يكن يرغب قط في الانتظام ضمن ائتلاف تشارلز ميشال إلى الأبد. فكونه جزءاً من الائتلاف الحاكم ألحق الكثير من الأضرار بالقاعدة الشعبية المؤيدة للحزب في البلاد. وبعد فوزه بتأييد نسبة 32.4 في المائة من الناخبين في مقاطعة فلانديرز البلجيكية في انتخابات عام 2014، انخفضت حصته من الناخبين إلى نحو 28 في المائة في استطلاعات الرأي اللاحقة.
ومع خسارة الحركة الإصلاحية للزخم المطلوب في والونيا وبروكسل في مواجهة الاشتراكيين والخضر، بدا أن زعماء حزب التحالف الفلامندي الجديد يشعرون بأن الوقت قد حان بالنسبة إليهم لمغادرة الائتلاف الحاكم (الذي من المحتمل أن يرغب السيد ميشال في استمراره كحكومة تصريف الأعمال حتى ميعاد الانتخابات المقبلة والمقرر انعقادها في مايو/ (أيار المقبل) والتحول إلى المعارضة السياسية.
كان اتفاق الهجرة المغربي مجرد ذريعة سياسية مناسبة. وأغلب الناخبين الشعبويين في أي دولة لا يرغبون ببساطة في إبرام أي صفقات دولية بشأن هذه القضية. كما أنهم لا يعبأون بالتفاصيل السياسية كذلك، مما يسهل الأمر كثيراً لاستغلال الاتفاق نقطةً للحشد، كما فعل اليمينيون في غير مكان من قبل. ويتعلق الأمر بأن حكومة بلجيكا كانت هشة بدرجة كافية، وناضجة بدرجة أيضاً كافية للفرار من الجهود المحمومة الساعية لإثارة أزمة سياسية داخلية طاحنة. وإن كان أداء حزب التحالف الفلامندي الجديد أفضل بكثير في الانتخابات القادمة بفضل موقفه المتخذ من الاتفاق، فإن الحكومة الائتلافية البلجيكية المقبلة، التي تدير دولة مصابة بالتصدع السياسي في قلب الاتحاد الأوروبي، يمكن أن يتحول إلى صديق للحكومات الشعبوية الأخرى في شرق القارة بدلاً من الانصياع لبيروقراطية الاتحاد الأوروبي في بروكسل. وهذا لن يكون مشهداً جميلاً بحال.
* بالاتفاق مع «بلومبرغ»
وتحمل وثيقة الاتفاق عنوان «الميثاق العالمي للهجرة الآمنة والمنظمة والقانونية»، الذي جرى التوقيع عليه في المغرب خلال الشهر الحالي. ولقد رفضت الولايات المتحدة الأميركية، وعدد من البلدان الأخرى، أغلبها في أواسط أوروبا وشرقها، التوقيع على الاتفاق.
ولقد عارضت الأحزاب اليمينية الاتفاق بشدة، وأطلقت مزاعم غير حقيقية بشأنه. ويقولون إن الاتفاق سوف يصم انتقادات الهجرة بأنها غير قانونية، ويجبر الدول على الاعتراف بالمهاجرين كافة بصفتهم لاجئين سياسيين، ويقدح في سيادة الدول من خلال فرض سياسات موحدة للهجرة على البلدان كافة. وليس هناك شيء صحيح من هذه الادعاءات: تريد الأمم المتحدة من الدول القومية أن تتعامل برفق مع المهاجرين، وتطرح بعض المقترحات بشأن كيفية فعل ذلك من دون الحاجة إلى اتخاذ أي إجراءات محددة. ولا تعتبر الوثيقة ملزمة لأي دولة من الدول بموجب القانون الدولي.
لكن في بلجيكا، كان التحالف الفلامندي الجديد – وهو الحزب الشعبوي الفلامندي بقيادة بارت دي ويفر عمدة مدينة أنتويرب – مصرّاً على أنه لا ينبغي على الحكومة التوقيع على الاتفاق في المقام الأول. ولقد أطلق التحالف على حكومة السيد ميشال، الذي كان التحالف جزءاً منها، لقب «حكومة مراكش البلجيكية».
وأعلن ثيو فرانكلين، نجم «تويتر» في التحالف الفلامندي الجديد ووزير الهجرة في حكومة السيد ميشال، أن حزبه يرغب في ألا تكون له علاقة بالأمر تماماً، نظراً لأن الاتفاق مؤيد بشدة لملف الهجرة. كما زعم أن المحاكم الأوروبية قد تشرع في إصدار الأحكام التي تستند إلى هذا الاتفاق – وهو الادعاء الذي يفتقر إلى أي دليل يؤيده. وفي عطلة نهاية الأسبوع الماضي، تحولت الاحتجاجات الشعبية في بلجيكا ضد الاتفاق المذكور من السلمية إلى العنف.
وبلجيكا، كما يجب أن توصف، لا تحظى بتاريخ سعيد حيال الهجرة. فمنذ أن كانت قوة استعمارية غاشمة ومجحفة، بل وذات تاريخ من الإبادة الجماعية أيضاً، لم ترحّب الأراضي البلجيكية بالمهاجرين أبداً، وكان سجلها فيما يتعلق بالاندماج والاستيعاب ضعيف للغاية.
ومن بين سكان البلاد البالغ تعدادهم 12 مليون نسمة هناك 3 ملايين نسمة من خلفيات مهاجرة – ونصف مليون قادم من دول أخرى ضمن الكتلة الأوروبية. ويواجه أولئك القادمون من بلدان غير أوروبية صعوبات كبيرة في بلجيكا؛ إذ هناك نسبة 60 في المائة من المهاجرين من خارج الاتحاد الأوروبي في أدنى شريحة من شرائح المجتمع من حيث الدخل، ويعيش نصفهم في ظروف سكانية مدقعة، و70 في المائة منهم من النساء العاطلات عن العمل.
واقتراح تصحيح عقود مطولة من السياسات الداخلية الفاشلة هو من المقترحات الأكثر صعوبة وصرامة من السماح لعدد قليل من الناس بدخول البلاد؛ ولذلك ركز حزب التحالف الفلامندي الجديد على «الهجرة المنظمة».
ومع ذلك، فإن انهيار الائتلاف الحاكم في البلاد لا يتعلق بالأساس بملف الهجرة بقدر ما يتعلق بالسياسات الداخلية بين الأحزاب.
كانت حكومة تشارلز ميشال تمثل تحالفاً غير مستقر لحركته الإصلاحية الناطقة بالفرنسية، وثلاثة أحزاب فلامندية، بما في ذلك حزب التحالف الفلامندي الجديد، الذي لن يعمل في المعتاد مع حزب والوون مثل حزب السيد ميشال. وعلى عكس التوقعات بحدوث أزمة سياسية مبكرة، إلا أن مجلس الوزراء البلجيكي واصل العمل، ونجح في إحراز النمو الاقتصادي المطرد، وتخفيضات الضرائب على المواطنين، وانخفاض معدلات البطالة، وتقليص العجز في الموازنة. ولقد ساهم حزب التحالف الفلامندي الجديد، ولا سيما وزير المالية يوهان فان أوفرفيلد، بكل إيجابية في هذا الأداء السياسي الحكومي القوي.
لكن الحزب لم يكن يرغب قط في الانتظام ضمن ائتلاف تشارلز ميشال إلى الأبد. فكونه جزءاً من الائتلاف الحاكم ألحق الكثير من الأضرار بالقاعدة الشعبية المؤيدة للحزب في البلاد. وبعد فوزه بتأييد نسبة 32.4 في المائة من الناخبين في مقاطعة فلانديرز البلجيكية في انتخابات عام 2014، انخفضت حصته من الناخبين إلى نحو 28 في المائة في استطلاعات الرأي اللاحقة.
ومع خسارة الحركة الإصلاحية للزخم المطلوب في والونيا وبروكسل في مواجهة الاشتراكيين والخضر، بدا أن زعماء حزب التحالف الفلامندي الجديد يشعرون بأن الوقت قد حان بالنسبة إليهم لمغادرة الائتلاف الحاكم (الذي من المحتمل أن يرغب السيد ميشال في استمراره كحكومة تصريف الأعمال حتى ميعاد الانتخابات المقبلة والمقرر انعقادها في مايو/ (أيار المقبل) والتحول إلى المعارضة السياسية.
كان اتفاق الهجرة المغربي مجرد ذريعة سياسية مناسبة. وأغلب الناخبين الشعبويين في أي دولة لا يرغبون ببساطة في إبرام أي صفقات دولية بشأن هذه القضية. كما أنهم لا يعبأون بالتفاصيل السياسية كذلك، مما يسهل الأمر كثيراً لاستغلال الاتفاق نقطةً للحشد، كما فعل اليمينيون في غير مكان من قبل. ويتعلق الأمر بأن حكومة بلجيكا كانت هشة بدرجة كافية، وناضجة بدرجة أيضاً كافية للفرار من الجهود المحمومة الساعية لإثارة أزمة سياسية داخلية طاحنة. وإن كان أداء حزب التحالف الفلامندي الجديد أفضل بكثير في الانتخابات القادمة بفضل موقفه المتخذ من الاتفاق، فإن الحكومة الائتلافية البلجيكية المقبلة، التي تدير دولة مصابة بالتصدع السياسي في قلب الاتحاد الأوروبي، يمكن أن يتحول إلى صديق للحكومات الشعبوية الأخرى في شرق القارة بدلاً من الانصياع لبيروقراطية الاتحاد الأوروبي في بروكسل. وهذا لن يكون مشهداً جميلاً بحال.
* بالاتفاق مع «بلومبرغ»
الشرق الأوسط