السلايدر الرئيسيشرق أوسط
اللبنانيّونَ ومفترقُ خياراتهم المطروحة: الستراتُ الصفراءُ أو الجيشُ والشعبُ والمقاوَمة؟
جمال دملج
ـ بيروت ـ من جمال دملج ـ ربّما كانت من المصادفات الغريبة أن يطلَّ عام 2018 على اللبنانيّين منذ ساعاته الأولى حاملًا في جعبته إحدى المقاربات الهامّة جدًّا حول تبايُن البُعد الأمنيّ ما بين باريس وما بين بيروت وأن يُوشِكَ العام نفسه على طيِّ الورقة الأخيرة من روزنامة أيّامه حاملًا على إيقاع تكتكات الثواني ما يُذكِّر بالمقاربة ذاتها، ولا سيّما إذا أخذنا في الاعتبار أنّ ما شهدته العاصمة الفرنسيّة ليلةَ رأسِ السنةِ من عمليّاتِ إخلالٍ بالأمن في هذه المناسَبة التي يُفترَض أن تكون سعيدةً ما لبث أن أسفَر عن إحراقِ أكثرَ من ألفِ سيّارةٍ وتحطيمِ واجهاتِ مئاتِ الأسواق التجاريّة، وبالتالي عن قيام عناصِر قوّات الشرطة بإلقاءِ القبضِ على قرابةَ الخمسمئةِ شخصٍ من المشاغبين، بينما مرَّت الاحتفالات في العاصمة اللبنانيّة على أحسنِ وجهٍ من دون تسجيلِ أيِّ حادثٍ أمنيٍّ من هذا النوع، الأمر الذي دفع بعض الإعلاميّين المحلّيّين إلى القول من باب التندُّر إنّه إذا كانت العادة قد درجت منذ خمسينيّات القرن العشرين على تسمية بيروت بـ “باريس الشرق”، نسبةً إلى أوجُه الشبه المتعدِّدة بين العاصمتين من حيث رسوخ مفاهيم الحياة الإنسانيّة فيهما بأحلى صوَرها وتجلّياتها، فإنّ مجرَّد إجراءِ مراجعةٍ سريعةٍ لشريط الأحداث الأمنيّة التي تمَّ تسجيلها في الدوائر المختصَّة هنا وهناك خلال تلك الليلة، لا بدَّ من أن يفتَح نافذةً للتأمُّل في مدى حاجة الفرنسيّين إلى إطلاقِ تسميةِ “بيروت الغرب” على عاصمتهم الجميلة لكي تُصبح أكثرَ وهَجًا وتألُّقًا وجمالًا واستقرارًا ونورًا، عِلمًا أنّ هذا التندُّر اللبنانيّ، وإنْ كان قد حمَل في طيّاته للوهلة الأولى شيئًا من سِمات المبالَغة المفرِطة في التعبير، ولكنّه ارتكَز في الأصل على نوايا طيّبةٍ ومنزَّهةٍ عن أيِّ نزعةٍ مبيَّتةٍ لارتكاب أيِّ نوعٍ من أنواعِ خطايا الإساءة للفرنسيّين.
لا شكَّ في أنّ مرحلة التعافي التدريجيّ ممّا كادَ يُصابُ به لبنان من أمراضٍ مزمِنةٍ جرّاء إرهاصات مراحل الانفلات والتسيُّب التي أنهكته على مدى سنواتٍ طويلةٍ من الزمان لم يكن ليُقدَّر لها أن تصِل باللبنانيّين إلى العيش في ظلّ أجواءٍ مبشِّرةٍ من الأمان والاستقرار لولا توفُّر لوازم العلاج المطلوب في وصفاتِ المؤسّستيْن العسكريّة والأمنيّة اللتيْن تمكَّنتا عن جدارةٍ، وباحترافيّةٍ عاليةٍ، من تجاوُز قطوع المخاطر المحدِقة بالوطن إلى درجةٍ متقدِّمةٍ جدًّا على مقياس النجاح في تطبيق علوم الأمن الاستباقيّ المعهودة في الدول المتطوِّرة، ولا سيّما أنّ اثنين من العاقلين لا يمكن أن يختلفا على البديهيّة القائلة بأنّ ما تحقَّق ليلة رأس السنة الحاليّة في مختلف الأرجاء اللبنانيّة، مقارنةً بما شهدته باريس وغيرها من العواصم الأوروبيّة، ليس أكثرَ أو أقلَّ من تجسيدٍ حقيقيٍّ مفعَمٍ بكافّة عناصِر العنفوان لما كان حرّاس الجمهوريّة من وحدات الجيش والمخابرات وشعبة المعلومات وأمن الدولة وقوى الأمن الداخليّ قد حقَّقوه من إنجازاتٍ مبهرةٍ خلال الأعوام القليلة الماضية في حربهم الاستباقيّة على الإرهاب، وهي الحرب التي من غيرِ المنصِف على الإطلاق القفزُ في سياق سرد وقائعها فوق ما لعبه “حزب الله” من أدوارٍ محوريّةٍ بالغةِ الأهمّيّة فيها منذ بدء مرحلة انخراطه العسكريّ الاستباقيّ المباشِر في محاربة الجماعات والفصائل التكفيريّة والإرهابيّة فوق الأراضي السوريّة خلال “معارك القصير” عام 2013 ولغاية العام الحاليّ.
وإذا كان منطق التاريخ الإنسانيّ اللبنانيّ قد حتَّم على هذه الحرب أن تتكلَّل بالنصر الأكيد في أعقاب اكتمال فرحة تحرير الجرود الواقعة عند تخوم الحدود مع سوريا من سطوة الإرهابيّين في وقتٍ سابقٍ من عام 2017 الماضي، فإنّ الأمانة الأخلاقيّة تستوجِب التأكيد هنا على أنّ هذا المنطق نفسه هو الذي أتاحَ لنا فرصةَ التنعُّم بما شهدناه من استقرارٍ أمنيٍّ داخليٍّ على الساحة اللبنانيّة في الآونة الأخيرة، ولا سيّما إذا أضَفنا إلى ما تقدَّم ذكره حول إنجازاتِ المؤسَّستيْن العسكريّة والأمنيّة في مجال مكافحة الإرهاب أنّ العهد اللبنانيّ الجديد الذي انبثَق فجرُه مع انتخاب العماد ميشال عون رئيسًا للجمهوريّة يوم الحادي والثلاثين من شهر تشرين الأوّل (أكتوبر) عام 2016، والذي تتّفِق الآراء على أنّه لا يزال الأجدَرَ من سِواه في مجال توجيه إبرة بوصلة السفينة اللبنانيّة إلى برِّ الأمان في غمرة تداعيات مزاجيّة المدِّ الدوليّ والجزْر الإقليميّ التي ما زالت تسعى إلى تقاذُفِها، أملًا في إغراقها من أجل تقاسُم غنائمِها، نِفطًا وغازًا وماءً وأرزًا وثقافةً وحضارةً إنسانيّة، هو العهدُ الوحيدُ الذي يُفترَض أن يُجمِعَ اللبنانيّون في هذه الأثناء على مؤازرته، وعلى الوقوف إلى جانبه كتِفًا بكِتفٍ في مواجهةِ كافّة أشكال التحدِّياتِ التي تواجِهُه في خضمّ معمعة الأخطارِ المحدِقةِ به من الأقرَبين الإقليميّين والأبعَدين الدوليّين على حدٍّ سواء.
هذا الكلام، وإنْ كان لا ينطوي على أيِّ رغبةٍ مسبَّقةٍ في التسويق لدعايةٍ إعلاميّةٍ مؤدّاها أنّ الأوضاع السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة في لبنان تسيرُ في الوقت الحاليّ على أحسنِ ما يُرام، ولكنّ الهدف الرئيسيّ من وراء إسقاطه هنا يتمثَّل في وجوب التنبيه إلى مخاطِر الوقوع في فخِّ اللجوء إلى استخدام لغة الشارع كوسيلةٍ ناجِعةٍ للاحتجاج على تردّي هذه الأوضاع، ولا سيّما إذا أخذنا في الاعتبار أنّ فكرةَ استنساخِ تصميمِ “السترات الصفراء” في الآونة الأخيرة عن الفرنسيّين وترويجَها في الشارع العربيّ لا بدَّ من أن تُذكِّرنا بما كانت قد آلَت إليه الأوضاع في الشوارع العربيّة لدى استنساخِ فكرةِ “احتلّوا وول ستريت” الأميركيّة في غمرة تداعيات ما اتُّفق على تسميته مجازًا عام 2011 بـ “ربيع العرب”، بدءًا من تونس ومصر، مرورًا بليبيا واليمن، وانتهاءً بسوريا التي أوشكَت على التعافي من عوارِض تلك الفكرة بقُدرةِ القادِر الإيرانيّ والروسيّ قبلَ أيِّ اعتبارٍ آخَر، وفوق كلِّ اعتبارٍ آخَر، وهو الاعتبار الذي يبدو كافيًا في هذه الأثناء للدلالة إلى حقيقةٍ تكادُ تبدو راسخةً ومؤدّاها أنّ أيَّ محاولةٍ للقفز فوق حِبال المحوَر الروسيّ – الإيرانيّ على الساحة الشرق أوسطيّة، سواءٌ كانت أميركيّةً أم إسرائيليّةً أم تركيّةً أم خليجيّةً، لا بدَّ من أن تؤول بأصحابها في نهاية المطاف إلى الخيبة المحتَّمة والأكيدة… وحسبي أنّ أكثرَ ما ينبغي على السابحين بعكس تيّار هذا المحور فعله، وخصوصًا في الفضاء اللبنانيّ، هو التسليم بالأمر الواقع على أساس أنّه أفضل الخيارات المطروحة من حيث معدَّل الأمان في مواجهة انعدام الأمان في كافّة الخيارات الأميركيّة والإسرائيليّة والتركيّة والخليجيّة الأخرى… وحسبي أن أجدِّد في الختام حثَّ اللبنانيّين على وجوب التمسُّك بمعادلة الجيش والشعب والمقاومة الداخليّة التي أثبتَت جدارتها في حمايتهم لغاية الآن من مخاطِرِ الأطماعِ الخارجيّةِ الآتيةِ من كلِّ حدبٍ وصوبٍ في ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم… والخير دائمًا في الابتعاد عن مقامرات الشارع، أسوةً بإرهاصات “الربيع العربيّ” أو بمغامرات “السترات الصفراء”، من وراء القصد.