أدهم عامر
ما أن فرغت من تناول منسف الثريد، حتى تناهى إلى سمعي أصوات حداءٍ ممتزجٍ بالزغاريد، ثم ولج الحاجب حاملاً البريد وقال:
في الباب بضعة آلافٍ من الحِسان، والرجال، والشُّياب .. يريدون السلام على مولاي شيخ الشباب.
فأذنت لهم بالدخول بإشارة من إصبعي، وما أن استووا في باحة القصر، حتى هللوا وأكثروا من المدائح، وأطنبوا في وصف ما سهت أمي عن ذكره من محاسنَ ليست بي.
فاستغربت وضاعة و بؤس هذا الجمع الهائل،ونفاقهم، وتهافتهم على ذكر ما ليس بي من فضائل، وأيقنت بأن في الأمر مكيدة أكيدة فهمست في أذن الحاجب:
ما بال هؤلاء القوم ؟! والله قد أطاروا من عيوني النوم.
فقال الحاجب:
على رسلك يا مولاي … دعهم يهزجون ويحتفلون، فهم وسط كل هذا الدمار .. لا يجيدون سوى الدبكة على صوت المزمار.
قلت:
ويحك … ما المناسبة ؟
قال :
لا بُدَّ وأن مولاي يمزح، فعهدي به يحب الدعابة.
قلت:
لا … لا أمزح، هيا أخبرني في الحال … ماخطب هذا الجمع الدجّال؟ … وما سِرُّ هذا الحبور في مناخ عزّ فيه السرور؟! … أهُمُ في عرسٍ أم في حفل طهور؟ … حدسي يُنبئُني بأن معظمهم شهود زور !
قال مستغرباً :
لعل التواضع بلغ منك مبلغاً حتى نسيت فوزك بشرف عضوية البرلمان .. هنيئاً لنا ولك يا مولاي بهذا الترف، فقد أصبحت بعد طول انتظار، تحظى بالشرف !
قلت: أي شرف؟!
أجاب: شرف الجلوس على بعد أمتار من زميلك النائب ” الحمار “.
قلت:
ويحك .. من تقصد؟
قال:
ذاك البهيم الذي كان يساوم المنكوبين طالباً منهم الولاء مقابل بعض السندويش و قليلاً من الماء.
أجبت:
عرفته .. وما أكثر ما عوّمت محنتنا من السفهاء والمنحطين من نمرته.
قال:
تخيل يا مولاي .. هؤلاء المُهلِّلون هم من نفس جمهور المنكوبين الذين لا يَتَّعِظون من العِبرْ والدروس حتى ولو أحضرت لكل واحد منهم عروس ! … فهم على الدوام يستميتون دفاعاً عن قُطاع الطرق واللصوص… ولا يكترثون لما حل بهم من الفاقة .. لأنهم على نهج القِط الذي لا يحب سوى خنّاقه.
قلت:
يا حاجبي المتعوس .. تعلم تمام العلم بأن موروثنا قائم على مبدأ ” خيار و فقّوس ” و ” داعس ومدعوس ” و ” رأس و ذنب ” .. فحذراي من صحوتك والتزم حدود الأدب، ولا تهرف بما لا تعرف.
ثم ارتديت بذلتي الرسمية المرصعة بأربعة صفوف كاملة من أغطية زجاجات البيبسي والسينالكو و توجهت منتشياً صوب الجموع .. فَعَلتْ وجوههم مسحة من مَهَابَةٍ وخشوع، أمسكت بعدها بالمحقان وبدأت بخطابي الرّنان، مُجلجلا بعالي الصوت:
أعدكم يا سادة .. بتعبيد الشوارع، وإنشاء المزارع، و مَدِّ الجسور، وجني العنب وقتل الناطور، وتوفير المازوت والغاز ،وتدريب أطفالكم وشيوخكم على الجمباز، و تشييد دور الأوبرا والمسارح سعياً مني لتهذيب القطيع السارح، وتشغيل المعامل والمصانع، وتوفير اللقمة لكل جائع.
و فجأةً .. علا صوت الحّوامة التي ستقلني صوب البرلمان على صخب وتهليل الجموع .. واستيقظت على صوت أُنثوي يقول:
” قوم نزال كب الزبالة ما عاد بكير… وحاجتك شخير “.
و عندما فتحت عيناي، رأيت زوجتي وقد شغّلت ” مكنسة الكهرباء ” و في يدها خرطوم ” حوامتي ” التي تسببت بكل هذه الضوضاء، وقطعت علي استرسالي ولُحمتي ” الوطنية ” مع جمهوري الكبير، فاستويت على السرير بعد أن تبخّر الجمع الغفير، وحمدت العالي القدير على نجاتي من بئس هذا المآل و سوء هذا المصير، فأنا لا تُشرفني عضوية ذاك الإسطبل وأخجل أيضاً من زمالة الحمير.