أقلام مختارة

قراءة في الثورات العربية: ليست ربيعا ولا شتاء، إنها مرحلة

منى فياض

حثني الملف الذي نشرته صحيفة لوموند بولتيك الفرنسية في عدد خاص في تموز/يوليو 2018، تحت عنوان “تاريخ الثورات” (L’histoire des revolutions) في عدد خاص، على تسجيل مجموعة من الملاحظات في ما يتعلق بالثورات العربية.

إن الإنسانية محكومة منذ القدم بالتقدم عبر انقطاعات وثورات متتابعة. هذه الانقلابات الفجائية في تاريخنا، ولكن النادرة في النهاية، تولّد الـ”ما قبل” والـ”ما بعد”، في السياسة كما في الميادين الأخرى. تسم التغيير الحاد في بنية المجتمع أو الدولة. فعندما يصبح الرجال والنساء غير راضين عن ظروف معيشتهم يتجمعون للتعبير عن سخطهم وغضبهم ويحاولون تغيير نظام الأشياء القديم؛ وهو ما يحصل منذ مصر القديمة إلى الصين الشعبية وجميع الثورات التي شهدها التاريخ، وتجسدت بشخصيات مثل سبارتاكوس أو روبسبيير، لينين أو ماو أو كاسترو. ويبقى السؤال: هل حافظت الثورات على وعودها الثورية؟

فشلت الكثير من هذه الثورات، لأنها لم تتمكن سوى من هز السلطة القائمة: ثورات الفلاحين في القرون الوسطى، كومونة بارس أو ربيع براغ.. كذلك الأمر بالنسبة للثورتين الروسية والصينية. يكمن فشل هاتين الأخيرتين في تمخضهما عن أنظمة توتاليتارية.

في المقابل، نجحت ثورتان كبيرتان في التاريخ الحديث: الثورة الاستقلال الأميركية عام 1776، والثورة الفرنسية عام 1792 لإرساء الجمهورية. حصل العكس في مطلع القرن العشرين مع المثال الشيوعي بعدما غذى الاندفاعة الثورية العالمية، سواء في روسيا أو غيرها. ومع انتهاء الاستعمار استبدلت الثورات بالنضالات النسوية والاحتجاجية.

هناك ثورات مصغرة تحصل هنا وهناك تشجع عليها تأثيرات العولمة (توحش رأس المال وخراب البيئة) لكنها لم تعد تهدف إلى إرساء العدالة على مستوى الكرة. حلت الوعود الثورية الأقرب إلى الفردانية والجوانية محل الطوباويات الجماعية. يمكن القول إن فترة التغيير الديموقراطي في أميركا اللاتينية أقرب لأن تكون قد انتهت. أما في ما يتعلق بالثورات العربية (مصر وليبيا وسورية)، فلقد تم اعتراض سبيلها مع أنها أثارت الحماس في بدايتها وشكلت سلمية شباب ميدان التحرير نموذجا مثيرا للإعجاب.

يرى السيسيولوجي جاك غولدستون، الذي ألف عددا من الكتب حول الثورات، أن الثورات اتخذت معاني مختلفة عبر التاريخ.

تكون الثورة ثورة عندما تعجز الحكومة عن مواجهتها فتتوسع وتكتسب شرائح جديدة؛ وعندما تفشل في التغيير وتتمكن الحكومة من ضبطها، فتكون مجرد انتفاضة.

ليست أشكال الاعتراضات هي التي تميز بين الانتفاضة والثورة بل مدى فعالية رد السلطات على ردود فعل النخب ومدى ولاء هذه الأخيرة للسلطة. ويمكن أن نضيف في سورية إلى دور النخب، دور الأنظمة المستبدة وميليشياتها التي استنجد بها النظام للاحتفاظ بالسلطة ولو سمح عبر ذلك باحتلال بلاده.

تسببت الثورات العربية، التي تتابعت في العام 2011، بالكثير من الجدل من أجل تعريفها، فسميت بداية بالربيع العربي الذي سرعان ما حل محله الشتاء؛ وسميت في مصر انقلابا وبسورية حربا أهلية.

فما الذي يميز الاعتراضات التي تنفجر، في سياق الصراع على السلطة، عن بعضها البعض؟

يجيب غولدستون أن هوية المعارضين هي التي تميز بينها. فالانقلاب يقوده عادة العسكر؛ مع ذلك لم يكن وصول السيسي إلى السلطة انقلابا بالمعنى التقليدي لأنه كان مدعوما من قبل الجماهير التي عارضت حكم الإخوان وتجربة محمد مرسي.

أما الحرب الأهلية فتكون مسرح مواجهات بين مجموعات مسلحة؛ مع ذلك لا يمكن أن نطلق على الصراع السوري اسم حرب أهلية كون معظم المتحاربين قوى محتلة ومستوردة تتصارع على الأرض السورية.

ولكي تنجح الثورات تحتاج إلى أشخاص يتمنون التغيير الجذري للنظام واستبداله بآخر. لذا تعد حروب التحرير ثورات لأن الفاعلين فيها يرغبون بالقضاء على النظام التابع وإعادة تأسيس بلدهم.

لم تعد الثورة مرتبطة بالحدث السياسي فقط، بل التغيير الجذري. لذا يتم الحديث عن ثورة علمية وثورة بيئية أو دينية، وحتى بالمعنى السياسي الصافي تغير تعريفها تاريخيا. ففي عصر النهضة، عنت كلمة ثورة بالإيطالية التغير الدوري للنظام في المدن ـ الدولة الإيطالية، بينما عنت لاحقا في الثورة الفرنسية، القضاء على كل مرتكزات المجتمع الفرنسي: الحق الإلهي للملكية والحقوق الإقطاعية وسلطة الكنيسة.. وبدلا عنها تعهدت الحكومة باحترام المبادئ الطبيعية العالمية التي يعرّفها العقل.

تحولت الثورة قطيعة تامة مع الماضي، وولادة نظام فريد. وهو ما ظن البولشفيك أنهم قادرون على تحقيقه في ثورة تشرين الأول/أكتوبر.

ولم تعد صفة العنف التي رافقت الثورات حتى القرن العشرين ملازمة لها؛ صار لدينا الثورات المخملية والملونة التي سادت في الشرق الأوسط مؤخرا وقبلها في أوراسيا؛ ما دعا المؤرخ البريطاني تيموتي غارتون إلى اقتراح تعبير refolution أي جمع إصلاح وثورة معا.

كما أكد تزامن الثورات في العالم العربي إمكانية حصولها كموجات، كانت تتباعد في ما مضى، لكن ثورة المعلومات من ناحية واشتراك المنطقة العربية بثقافة وبنى اجتماعية وسياسية متقاربة جعلتها متزامنة.

تحتاج الثورات إلى قيادة؛ لذلك عزا البعض فشل الثورات العربية إلى غياب القيادة، لكن في مصر كثرة القيادات وتناقضها وتنافسها وعجزها عن التفاهم فيما بينها (إخوان مسلمون وسلفيون وقيادات علمانية) كانت سببا إضافيا لعجزها ونجاح الجيش في استعادة المبادرة. كذلك الأمر في سورية، فإن انقسام قيادات المعارضة وتعارضها الذي كان أوسع من حالة مصر وهو مستمر حتى الآن، كان أحد أسباب فشلها وبقاء الأسد في سورية المحتلة.

تنجح الثورة عندما تتوحد قياداتها ضد السلطة القائمة وهو ما نجحت فيه القيادات التونسية المؤطرة في نقابات ذات تاريخ نضالي وأحزاب. لذا يصعب توقع أسباب الثورة بدقة كما في نجاحها، مثلما يصعب تحديد حصول زلزال لأن الطبقات التي تحدد الانقطاع الفجائي مختبئة في الأعماق ويصعب رصد تحركاتها.

يمكن للسوسيولوجي أن يحدد المناطق التي يحتمل أن تعرف ثورات وليس أكثر من ذلك. فلقد بينت أحداث مصر أنه كان بإمكان الجيش أن يقمع الثورة في ميدان التحرير كما فعل سابقا؛ لكنه استعمل الاعتراض الشعبي كي يقطع طريق التوريث على حسني مبارك لأن جمال مبارك كان من خارج الجيش عكس من سبقوه.

من هنا يفرق السوسيولوجي الأميركي شارل تيللي بين “الوضعية الثورية” و”النتائج الثورية”. فتتميز الأولى “بالسيادات المتعددة”، فيظهر المعترضون ويحشدون قسما من المحتجين الشعبيين لصالحهم ويطالبون بالسيطرة على السلطة على حساب السلطات العاجزة عن إنهاء الاعتراض. أما النتيجة الثورية فتتسم بانتقال سلطة الدولة ـ عادة بالقوة ـ إلى تحالف قيادي جديد. ولكي ينجح هذا الانتقال يجب أن يقاد، جزئيا على الأقل، من قبل النخبة. وهذا كان وضع تونس دون غيرها.

من المهم أيضا مساءلة الثورة حول قدرتها في أن تشكل نموذجا لثوار مستقبليين. وهذا ما استطاعت الثورة الفرنسية تقديمه، بعد أن أنتجت شكلا سياسيا للاعتراض الشعبي تمكن من إيصال مجموعة منتخبة إلى السلطة، مهمتها وضع دستور.

أما سبب ندرة الثورات فهو لأن ركيزة الأنظمة السياسية منعت ذلك بكل الطرق الممكنة وخنقت الغضب. وعندما تحصل ثورة تكون قد مرت بسياق طويل من فترات تهيئة، واستقرار، وردة فعل أو ثورة مضادة وانقسامات داخلية. وهذا ما حصل في الثورة الفرنسية التي تعرضت لانشقاقات داخلية مميتة ومدمرة. أما الثورات العربية التي فشلت، فهي مجرد مرحلة في رحلة التغيير الطويلة التي بدأت الآن.

ولكي أدعم الأمل في مستقبل ربما غير قريب، أعود إلى النص الذي يؤكد أن هذه الحقيقة عرفت منذ أيام الفراعنة، وعرف باسم بكائيات ايبوير الفرعوني، يذكرنا بحقبة من السلم تلي فترات الظلم والاستبداد: عندما تنتهي سيادة العنف والجريمة، سيأتي حكم ملكي جديد يستحق هذا الاسم، فالبعض سيرفضون قبول كل هذا البؤس. ويولد الأمل من جديد عندما يتذكرون القيم الحقيقية. وإذا وعى الفرعون واجباته واحترم القانون، سوف يعود زمن السعادة.

“الحرة الأمريكية”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق