سمير عطا الله
جاء إلى بيروت أيام الفتوة سيرك إيطالي يدعى «ميدرانو». سيرك بأمه وأبيه. أفيال وخيول ونمور وقرود وحبال معلقة في الهواء العالي يمشي عليها البهلوانيون والبهلوانات، فتحبس الأنفاس وترتعش الجفون ويصفق الجمهور فرحاً، مع أن المسألة كلها قائمة على توتير أعصابه واللعب بها.
فالأفيال التي تنقلب ثم تقوم، والقرود التي تتسلق الحبال، والنمور التي تقفز من دوائر مشتعلة، كلها تؤدّي بالنسبة إليها عملاً عادياً، فتكافأ عليه بأفخر الأطعمة وأقراط الموز الصومالي.
ومع العمر لم تعد الأعمال البهلوانية تعني لنا شيئاً. وتوقف «لونا بارك» عن المجيء إلينا. فقد تفوق السياسيون عندنا على كل عمل بهلواني. وقفزوا فوق الحبال وتحتها. وكان بعضهم أسرع من القرود في الاستدارة حول نفسه، رأساً وذنباً.
وبعدما كانت البهلوانيات تثير فرحنا، أصبحت تصيبنا بالحساسية والخوف. ولم نعد نطيق رؤية بهلوات، ولا طبعاً «سيرك». ومن طالعي أن البهلونة فُرضت عليَّ فرضاً. فأنا أعمل، طوال العام، من زاوية على الشرفة. ومن حسنات ذلك المنظر الفسيح، وسقوف بيروت وغاباتها الحجرية. ومن الطالع أيضاً مشاهدة المفرقعات التي لا يعرف اللبنانيون حياة من دونها، وسماع أمطار الرصاص في المناسبات السياسية، كواحد من أسمى أشكال الابتهاج وأكثره رقياً وتمدناً.
في هذا المنظر المفتوح، هناك السقوف البعيدة، والسطوح القريبة. وتحت شرفتي مباشرة سطحان من القرميد. والأدق، سقفان، لأنهما غير مسطحين، بل مبنيان على شكل هرم حاد. ويبدو أن السقف يحتاج، من فترة إلى أخرى، شيئاً من الترميم، أو إصلاح المدخنة، أو سبباً لا يعرفه سواهم.
و«هم» رجال يهوون التنزه فوق سطوح القرميد المنحرفة مثل هرم خوفو أو برج إيفل. ويخطر لأحدهم أن يتمشى أحياناً فوق السطح وهو يدخن سيجارته وينفخها في الهواء الطلق. عندما ألتفت يساراً وأرى هذا المشهد، أدير وجهي فوراً إلى الجهة الأخرى، متذكراً قول عنترة في مقام آخر «وأغض طرفي إن بدت لي جارتي/ حتى يواري جارتي مثواها».
أعود بعد قليل وأتطلع فأرى البهلوان لا يزال يتمشى ويدخن ويتفقد قطع القرميد. ويصيبني ما يصيب الواقعين في كابوس من ضيق نفس. وأنتظر أن ينتهي الأخ من سيجارته ويخلي هذا المشهد المفزع، فلا ولم وليس.
الحل الوحيد هو أن أترك الشرفة الزجاجية وأدخل إلى البيت. إلى أن ينتهي البهلوان من عرضه المجاني. ويزيدني ذلك قناعة بأن البهلونة السياسية أقل خطراً. قرميد طالع قرميد نازل، وعلى أخلاق عنترة السلام.
فالأفيال التي تنقلب ثم تقوم، والقرود التي تتسلق الحبال، والنمور التي تقفز من دوائر مشتعلة، كلها تؤدّي بالنسبة إليها عملاً عادياً، فتكافأ عليه بأفخر الأطعمة وأقراط الموز الصومالي.
ومع العمر لم تعد الأعمال البهلوانية تعني لنا شيئاً. وتوقف «لونا بارك» عن المجيء إلينا. فقد تفوق السياسيون عندنا على كل عمل بهلواني. وقفزوا فوق الحبال وتحتها. وكان بعضهم أسرع من القرود في الاستدارة حول نفسه، رأساً وذنباً.
وبعدما كانت البهلوانيات تثير فرحنا، أصبحت تصيبنا بالحساسية والخوف. ولم نعد نطيق رؤية بهلوات، ولا طبعاً «سيرك». ومن طالعي أن البهلونة فُرضت عليَّ فرضاً. فأنا أعمل، طوال العام، من زاوية على الشرفة. ومن حسنات ذلك المنظر الفسيح، وسقوف بيروت وغاباتها الحجرية. ومن الطالع أيضاً مشاهدة المفرقعات التي لا يعرف اللبنانيون حياة من دونها، وسماع أمطار الرصاص في المناسبات السياسية، كواحد من أسمى أشكال الابتهاج وأكثره رقياً وتمدناً.
في هذا المنظر المفتوح، هناك السقوف البعيدة، والسطوح القريبة. وتحت شرفتي مباشرة سطحان من القرميد. والأدق، سقفان، لأنهما غير مسطحين، بل مبنيان على شكل هرم حاد. ويبدو أن السقف يحتاج، من فترة إلى أخرى، شيئاً من الترميم، أو إصلاح المدخنة، أو سبباً لا يعرفه سواهم.
و«هم» رجال يهوون التنزه فوق سطوح القرميد المنحرفة مثل هرم خوفو أو برج إيفل. ويخطر لأحدهم أن يتمشى أحياناً فوق السطح وهو يدخن سيجارته وينفخها في الهواء الطلق. عندما ألتفت يساراً وأرى هذا المشهد، أدير وجهي فوراً إلى الجهة الأخرى، متذكراً قول عنترة في مقام آخر «وأغض طرفي إن بدت لي جارتي/ حتى يواري جارتي مثواها».
أعود بعد قليل وأتطلع فأرى البهلوان لا يزال يتمشى ويدخن ويتفقد قطع القرميد. ويصيبني ما يصيب الواقعين في كابوس من ضيق نفس. وأنتظر أن ينتهي الأخ من سيجارته ويخلي هذا المشهد المفزع، فلا ولم وليس.
الحل الوحيد هو أن أترك الشرفة الزجاجية وأدخل إلى البيت. إلى أن ينتهي البهلوان من عرضه المجاني. ويزيدني ذلك قناعة بأن البهلونة السياسية أقل خطراً. قرميد طالع قرميد نازل، وعلى أخلاق عنترة السلام.
الشرق الأوسط اللندنية