الصورة الأيقونية هي التي تختزل حدثاً بعينه، وتنوب عنه، وتحضر في الذاكرة البصرية للمشاهدين. وبهذا المعنى يمكن الكلام عن صورة المصافحة بين ياسر عرفات، واسحق رابين، في حديقة البيت الأبيض، بوصفها أيقونية. فقد جمّدت عين الكاميرا الصورة المذكورة في المكان والزمان، في مثل هذه الأيام، قبل خمسة وعشرين عاماً، وحضرت بكثافة، في الأيام القليلة الماضية، في معرض الكلام عمّا عُرف باتفاق أوسلو، وما تبقى منه، بعد مرور كل تلك السنوات.
ولا يبدو من قبيل المجازفة القول إن الاتفاق المذكور في حالة موت سريري، الآن، وأن الآمال التي عُلّقت عليه ذهبت أدراج الرياح. وتكاد هذه تكون نقطة الإجماع الوحيدة، في الوقت الحاضر، فلا أحد يجادل في حقيقة بأن الاتفاق وصل طريقاً مسدودة.
ويصعب، في الواقع، العثور على إجماع مشابه في كل ما يتصل بأوسلو، غير الكلام عن انسداد الأفق، والفشل. فالكل يعترف بهذا وذاك، ولكن البحث عن، وتفسير الأسباب، يتجلى بطريقة مختلفة لدى الكثيرين، سواء في أوساط الفلسطينيين والإسرائيليين، أو في الإقليم والعالم.
وإذا وضعنا ادعاء الحكمة بأثر رجعي، والكلام على طريقة “ألم نقل لكم”، جانباً، يمكن التفكير في أحداث بعينها أسهمت أكثر من غيرها في انسداد الأفق، ومهّدت الطريق إلى الفشل، ولا قيمة في معرض التحليل لنوايا الفاعلين الأساسيين، بل لما نجم عن تلك الأحداث من تفاعلات، وديناميات، خلقت واقعاً جديداً. ولا يمكن في كل الأحوال اختزال ربع قرن من الزمان في أحداث قليلة، بل التفكير في أحداث بعينها كلحظات مفصلية.
لذا، يمكن الكلام عن حقيقة أن وضع مسألة الاستيطان والمستوطنين في قائمة قضايا الحل النهائي، وترحيلها إلى ما بعد انتهاء المرحلة الانتقالية، كان المصدر الأوّل والرئيس للفشل. فقد وجد معارضو أوسلو من الإسرائيليين أنفسهم في خندق واحد مع المستوطنين، وشكّل هؤلاء كتلة سياسية واجتماعية وأيديولوجية، هائلة الحجم، مارست أشكالاً مختلفة من الضغط، والتحريض، وصلت حدها الأقصى في اغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي رابين، وفتحت الطريق أمام صعود معسكر اليمين القومي ـ الديني إلى سدة الحكم.
وفي السياق نفسه، شكّل وجود المستوطنات والمستوطنين نقطة احتكاك يومية، ومباشرة، بين الفلسطينيين والإسرائيليين في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس، وهذا مع كل ملابساته الأمنية والسياسية، ما أنضج الظروف الموضوعية لاندلاع الانتفاضة الثانية، التي سرعان ما تعسكرت، ومهّدت بدورها شرطاً موضوعياً لصعود حماس، التي لم تكن أقل رغبة من اليمين الإسرائيلي، ولأسباب مختلفة بطبيعة الحال، في إفشال مشروع أوسلو.
وأهم ما وسم الانتفاضة الثانية، نتيجة العسكرة السريعة، التي راهن عليها الإسرائيليون بوصفها عقب أخيل الفلسطينيين، التباس الأمر بين مفهومين على قدر كبير من الاختلاف، والدلالة السياسية، أيضاً: هل نريد انتفاضة لتحسين شروط التفاوض، أم لقلب الطاولة على الحل التفاوضي نفسه، ودحر الاحتلال بالقوة؟
وقد أسهم اللجوء إلى أسلوب العمليات الانتحارية، على نحو خاص، في مد معسكر اليمين القومي ـ الديني في إسرائيل بالكثير من المرافعات التي مكّنته من توسيع قاعدته الاجتماعية، وفعاليته التحريضية. ولنتذّكر أن إيريك شارون، الذي أسهم اقتحامه الاستفزازي، والمقصود، لباحات المسجد الأقصى، في اندلاع الانتفاضة الثانية، تحوّل إلى أحد أكثر الساسة شعبية في إسرائيل، في ظل الهستيريا الاجتماعية والسياسية، التي عصفت بالإسرائيليين في زمن الانتفاضة الثانية.
وأخيراً، ثمة مسألة تتعلّق بالعلاقة المتبادلة بالمعنى السلبي والإيجابي للصراع في فلسطين وعليها بين الفلسطينيين والإسرائيليين من ناحية، والواقع السياسي للعالم العربي، والشرق الأوسط، عموماً، من ناحية ثانية. ففي ذروة الانتفاضة الثانية طرأ تحوّل راديكالي على المشهد السياسي في الشرق الأوسط برمته، وتمثل في الاحتلال الأمريكي للعراق. وهذا بدوره أعاد ترتيب سلّم الأولويات، فأزاح المسألة الفلسطينية عن رأس القائمة، وخلق أولويات وهموماً جديدة ما زالت تداعياتها ماثلة للعيان حتى يوم الناس هذا.
وكما أسلفنا، لا تختزل اللحظات المفصلية المذكورة كل ما حدث، وربما لا تفسّره بطريقة كافية، ولكن أحداً لن يتمكن من التفكير في أوسلو وأسباب الفشل دون الوقوف، ضمن أشياء أخرى، أمام أحداث كهذه.
24