هناك من لديه شغف بقراءة قصص التاريخ، واستخلاص العظة والعبرة من سير كبار شخصياته. وهناك، بالمقابل، أشخاص يعرضون عن قراءة أمثولات الماضي، ويؤمنون أنهم يتمتعون فطريا بالخبرة التي تؤهلهم لاتخاذ القرارات الصائبة والمناسبة في مواجهة الأزمات.
في الواقع، توجد نظريتان متناقضتان، تقول الأولى: “التاريخ يعيد نفسه،” وهي تشبه الأمر بشكل الدائرة التي ما يلبث خطها أن يتلاقى عند نقطة معينة، فيتكرر الشكل بتنويعات بسيطة إلى ما لا نهاية. أما النظرية الثانية، فترفض هذه المقولة تماما وتعارضها بشدة، انطلاقا من أن “التاريخ فريد في أحداثه ولا يتكرر أبدا،” وهي نظرية ذات منطلق ماركسي غالبا تشبه مسيرة التاريخ بالخط المستقيم. يتناسى أصحاب كل من النظريتين أن الدائرة والخط المستقيم يتخذان أحيانا كثيرة سمة التعرج والالتواء، وأن مهارة المناورة لتفادي المطبات والعوائق هي ما يؤدي في الختام إلى الوصول إلى حسن الختام وقطف ثمار النجاح.
هناك شخصيات اشتهرت بالدهاء في التاريخ العربي القديم، ويقال إن دهاة العرب الكبار أربعة: معاوية بن أبي سفيان، عمرو بن العاص، زياد ابن أبيه والمغيرة بن شعبة. يروى أن الأصمعي قال: “كان معاوية ـ رحمه الله ـ يقول: أنا للأناة، وعمرو للبديهة، وزياد للكبار والصغار، والمغيرة للأمر العظيم”.
كان عمرو بن العاص أحد هؤلاء. اسمه أبو عبد الله بن وائل السهمي، وعُرف عنه ذكاء لم يسبق له مثيل بين جميع قادة المسلمين. أسلم في العام الثامن للهجرة بعدما حارب المسلمين في غزو الأحزاب، حين أتى الرسول إلى المدينة المنورة مع خالد بن الوليد. سبب تسميته بداهية العرب أنه كان واسع الحيلة في تدبير الأمور، وهناك الكثير من القصص التي وصفته كأسطورة، بحيث لقبه عمر بن الخطاب “أرطبون العرب”.
كان عمرو بارعا في القتال ويحسن المراوغة والخداع اللذين لا يخلوان من الذكاء وابتكار الحيل في فن المعارك. توفي عمرو بن العاص في مصر عن عمر ناهز ثمانية وثمانين عاما، ودفن هناك في منطقة المقطم، ويقال إن ضريحه موجود بالقرب من ضريح الإمام الشافعي.
يحكى أنه في أحد الأيام بينما كان عمرو بن العاص في الطريق إلى المدينة لوحده اعترضه جماعة من قطاع طرق، وأمسك زعيمهم بتلابيبه. لم يكن قطاع الطرق يعرفون هوية الرجل الأسير، بل كانوا يهمون بسلبه وقتله كائنا من يكن، لكن عمرو استوقفهم قائلا: “توقفوا. إن قتلتموني بالسيف متنا جميعا”. استغرب قطاع الطرق، وسألوه: “لماذا؟” أجابهم عمرو: “إن بي داء، فإن انتشر دمي، يموت كل من حولي”. توقفوا متبادلين نظرات حائرة، فأردف قائلا: “وما أتى بي وحدي إلى هنا إلا أني أردت الذهاب لمكان لا يكون فيه أحد، فأموت وحيدا وأوقف المرض اللعين عن العرب”. ثم سأل: “من أمسكني منكم بيده؟” فأشاروا إلى زعيمهم وقالوا: “هو زعيمنا”. فقال عمرو: “لا أبرح مكاني حتى يذهب معي، فقد مسه الداء”. هنا، توجس قطاع الطرق خيفة من زعيمهم الذي اقتنعوا أن عدوى المرض لا بد قد أصابته، وكانوا يعرفون قسوته وبطشه، ففروا منه هاربين، تاركين إياه وحيدا مع الأسير. هنا، قال عمر بن العاص لزعيم قطاع الطرق: “الآن سأريك ما الداء، ألا وهو الذكاء. إني أخاف أن تصبح أذكى مني وأنت قاطع طريق، فلا يستطيع الناس الخروج آمنين من ديارهم”. ثم هجم عليه وقتله.
تروى قصة أخرى عن دهاء عمرو بن العاص في أثناء حربه مع الرومان في مصر، إذ دعاه قائد “حصن بابليون” الروماني ليحادثه ويفاوضه، بينما أعطى أمرا لرجاله بإلقاء صخرة فوقه لدى خروجه من الحصن، وأعد كل شيء ليكون قتل ضيفه محتوما.
دخل عمرو على القائد الروماني، وجرى اللقاء بينهما. حين خرج عمرو في طريقه للانصراف إلى خارج الحصن، لمح فوق الأسوار حركة مريبة أيقظت فيه حاسة الحذر، وسرعان ما تصرف بشكل مفاجئ، إذ عاد إلى داخل الحصن بخطوات وئيدة مطمئنة وملامح بشوشة واثقة، كأنما لم يفزعه شيء، ولم يثر شكوكه أمر. دخل على القائد الروماني وقال له: “تذكرت أمرا، وأردت أن أطلعك عليه. إن معي حيث يقيم أصحابي جماعة من أصحاب الرسول السابقين إلى الإسلام، لا يقطع أمير المؤمنين بأمر دون مشورتهم، ولا يرسل جيشا من جيوش الإسلام إلا جعلهم على رأس مقاتليه، وقد رأيت أن آتيك بهم حتى يسمعوا منك مثل الذي سمعت، ويكونوا من الأمر على مثل ما أنا عليه من بيّنة”. هنا، ظن قائد الروم أن عمرو بن العاص منحه بسذاجة وغباء فرصة العمر، فصمم على أن يسايره ويوافقه على رأيه حتى إذا عاد ومعه تلك النخبة من زعماء المسلمين وخيرة رجالهم وقادتهم أجهز عليهم جميعا بدلا من أن يجهز على عمرو بن العاص وحده. لذا، أعطى بإشارة خفية أمره بتأجيل الخطة التي كانت معدة لاغتيال عمرو، وودعه بحرارة أكبر من السابق. ابتسم داهية العرب وهو يغادر الحصن آمنا مطمئنا. في الصباح، عاد عمرو إلى الحصن ممتطيا صهوة جواده على رأس جيشه، ثم قام بفتح مصر.
قصص دهاء عمرو بن العاص عديدة، لكن يبدو أن معاوية فاقه دهاء. يورد عباس محمود العقاد في كتابه “معاوية بن أبي سفيان” القصة التالية: “قال معاوية ذات يوم لصديقه عمرو: “يا عمرو، ما مبلغ دهائك؟” قال عمرو: “والله يا أمير المؤمنين، لا توجد مشكلة إلا وخرجت منها”. فقال معاوية: “أما أنا، فكان دهائي حرزا لي من أن أقع فيما يسوءني”. وتروى القصة نفسها بصيغة أخرى مفادها: “سأل معاوية عمرو بن العاص: ما بلغ من عقلك؟” قال عمرو: “ما دخلت في شيء قط إلا خرجت منه”. قال معاوية: “لكنني ما دخلت في شيء قط وأردت الخروج منه”.
يستخلص عباس محمود العقاد من هذا الحوار النتيجة التالية: “لم يكن عمرو ليقتحم المخاطر على الرغم منه ـ ثم يبحث عن مخارج النجاة منها. ولكنه يقتحم الخطر، ويقول غير مرة “عليكم بكل مزلقة مهلكة”، لأنه كان على ثقة بدهائه كلما ثاب إليه، وعلى وفاء لطبيعة الإقدام والاقتحام التي تقترن بالعبقرية، ودوافع القوة والحيوية.
وليس من عزم الأمور دهاء لا يندفع بصاحبه في المضمار ولا يرجى من نفعه قط إلا أنه لجام”. إذن، كان مبلغ ذكاء عمرو بن العاص أن يعرف كيف يخرج من أمر وقع فيه عندما يستشعر الخطر. أما معاوية بن أبي سفيان، فكان لا يدخل نفسه في وضع يريد الخروج منه، ولا يقدم على أمر لا يريد له أن يقع، منطلقا من قناعة بأنه يفترض بالقائد أن يعمد إلى تقدير الموقف وحساب عواقبه على ضوء تقييمه الموضوعي لقدراته قبل شروعه بالإقدام على أية خطوة.
عندما يطمئن القائد إلى أن تلك القدرات تسمح له بالدخول سالما غانما، دون تهديد لسيطرته على عناصره وأتباعه، فإنه يقدم عندئذ على الدخول دون أن يكون لديه قلق على كيفية الخروج منه، بل دون نية على الخروج مما دخل إليه بكامل وعيه وإرادته وقراره. والعبرة واحدة في الروايتين، ألا وهي أن تجنب الوقوع في مشكلة أبعد بصيرة وأشد حكمة من المهارة في الخروج منها.