أقلام مختارة

مدينة النسيج

سمير عطا الله

سمير عطا الله
تحمل بعض المدن والبلدات في العالم أجمع أسماء منتجاتها الزراعية أو الصناعية. وينطبق ذلك على بلدات كثيرة في لبنان. وفي الماضي كنا نرى في القرى بائعين متجولين يحملون على ظهورهم أنواعاً من الأقمشة الملونة ويجولون بها يوماً بعد يوم في جميع الأنحاء، موفرين بذلك على القرويين، مصاريف النزول إلى المدن وتكاليف الفنادق.
كان البائع المتجول يحمل اسماً واحداً هو «البرجاوي». وكنا نعتقد أن البرجاوي شخص يشتري الأقمشة بالجملة ويبيعها بالمفرق. لم يخطر لي مرة أن برجا، هذه المدينة الساحلية، الواقعة بين صيدا وبيروت، هي أيضاً مركز صناعي قديم، كانت أنواله تصدر نتاجها الجميل إلى إيطاليا واليونان وسائر ما كان يسمى آنذاك «بلاد الروم».
تربطني بالدكتور جمال جميل بشاشة، إمام «الجامع الكبير» في برجا، صداقة بالمراسلة. فهو لا يترك مناسبة للتشجيع إلا ويتكرم بمبادرة ودية. غير أن هديته الأغلى بداية هذا العام كانت مؤلفاً بديعاً بعنوان «الحياكة البرجاوية». وفي هذا البحث الأدبي لا يطالعنا فقط تاريخ المدينة، بل تاريخ الحياكة والخياطة والنساجة عند العرب. وكنت أعتقد أنها جميعاً واحدة، وهي ليست كذلك على الإطلاق. فالحياكة مرحلة وسطية بين الغزل والخياطة، وهي نسيج واصلة «ضم الشيء إلى الشيء»، كما يقول ابن منظور في «لسان العرب». ورأى ابن خلدون أن النساجة والخياطة من ضرورات العمران، «كما يحتاج إليه البشر من الرفه». وقد ازدهرت النساجة في الحواضر ولكن أيضاً في البوادي. وكان الغزل حرفة الرجل والمرأة على السواء. وكذلك الحياكة. وفي المعاجم «رجل حائك ونِسوة حوائِك»، وتُعتبر الحياكة من أقدم الصناعات اليدوية لارتباطها بحاجات الإنسان. وكان من السهل أن يمتهنها كثيرون، وخصوصاً البُسطاء من الناس، الذين كانوا يرون فيها مورداً للرزق يصونهم من بسط أكفهم في الشوارع.
منذ القرن السابع عشر ازدهرت صادرات برجا إلى موانئ المتوسط وخصوصاً مارسيليا والبندقية. وصارت بعض المدن الفرنسية الكبرى تكلف البرجاويين نسج أقمشة خاصة تبيعها في أوروبا على أنها من صُنعها. وشمل هذه التجارة قرى أخرى في لبنان بينها الذوق وبيت شباب وعينتوره. وعندما زار المستشرق الفرنسي كريستيان لوشون برجا 1962 أحصى فيها 50 نول حياكة تتوزع بين البيوت ويعود تاريخها إلى 400 سنة.
وإذ أتقنت البلدة هذه الصناعة على مدى السنين، وفرت لأبنائها فرص العمل والتجارة، وخفضت لعنة البطالة. وقد انقسم شبابها إلى قسمين؛ واحد يعمل داخل المصانع، وآخر يجوب القرى والدساكر والجرود المعزولة حاملاً على كتفيه، في لفة قماش بيضاء، معرض الألوان والزواهي المتنقل.
يقول الدكتور بشاشة: لا شك في أن الباعة المتجولين البراجنة لم يتركوا زاوية في هذه البلدان إلا وقصدوها وتركوا فيها أثراً من حكاياتهم ومعاناتهم وكفاحهم، حتى غدت نوادرهم وقصصهم تمثل موضوعاً لبعض رواد الأدب الشعبي في تلك البلدان.
الشرق الأوسط

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق