محمد المحمود
يتصور الإنسان البدائي ذو العوالم المحدودة العالمَ ـ بأناسه وأشيائه ـ في حدود معرفته المحدودة، فيما يتصور الإنسان العالمي، ذو العوالم المفتوحة على أوسع الآفاق وأعمق التصورات، العالمَ ـ بأناسه وأشيائه ـ في مدى معرفته التي تتسع بأعلى ما تستطيع المعرفة الإنسانية (المتاحة في ظرف زمني/ تطوري ما) توفيره.
الإنسان ذو المعرفة المحدودة يرى نفسَه العالمَ، فيما الإنسان ذو المعرفة العامة المتسعة باتساع العالم يرى نفسه في سياق موقعه من هذا العالم؛ دون يلغي نفسه ـ تصورا؛ فوجدانا؛ فمواقفَ ـ وفي الوقت نفسه دون أن يلغي الآخرين ـ تصورا؛ فوجدانا؛ فمواقفَ ـ لأن مثل هذه المعرفة المتكاثفة المتفاعلة في مدى زمني طويل، وفي مدى جغرافي/ثقافي عريض، تستطيع ضبط إيقاع حركة الوجدان.
أتذكر أيام مراهقتي الأولى التي كانت مفعمة بتحيزات وجدانية جامحة. لم يكن الظرف العمري المصنف وجدانيا (المراهقة) هو ـ وحده ـ السبب في تشكيل كل هذه التحيزات الانخطافية. المعرفة المحدودة كانت هي المسؤولة عن محدودية الرؤية التي تحوّلت محدوديتها من المعرفي إلى الوجداني. كان هذا الظرف العمري/المراهقة هو الأرضية التي أقامت عليها معرفتي ـ المحدودة آنذاك بحدود الشعر الجاهلي وما يتفرع عنه وعليه ـ صرحَ تحيّزاتي التي كادت تتفتق عن عنصرية جغرافية وعرقية وثقافية؛ لولا أن فتح الأدب ـ بعوالمه اللامحدودة/ بآفاقه الإنسانية ـ لهذا المراهق الغرّ المُتعالم الذي لم يكن يعلم أنه إن كان قد حفظ شيئا فقد غابت عنه أشياء وأشياء!
كان الشعر الجاهلي هو بوابتي الثقافية الأولى. في الخامسة عشرة من عمري تقريبا دخلت في دوامة السحر/دوامة الشعر؛ بعد أن قرأت ـ ذات مصادفة ـ بضعة أبيات من معلقة طرفة بن العبد. غرقت في عوالم هذا الشعر الجاهلي الذي تصورته هو الأدب، ولا أدب سواه، بل هو العالم، ولا عالم غيره/غير ما يشير إليه. ورغم وعورة كثير من ألفاظه فقد كان عشقي له دافعا لفك مغاليقها بالنظر إلى الهوامش المتوفرة غالبا على متن أي نص جاهلي.
لكن، هذه الهوامش لا تخلو ـ بدورها ـ من استغلاق على من هو في مثل سني، خاصة عندما يتعلق الأمر بأسماء الأماكن التي يُكثر منها الشاعر الجاهلي كأهم عناصر البناء الفني لقصيدته، والتي لا يتكلف المحققون عناء تحديدها وفق معطيات الجغرافيا المعاصرة، بل يكتفون بما يقوله الأوائل، كالأصمعي والمفضل الضبي والزوزني والخطيب التبريزي، ومن يتطور منهم؛ يصل إلى الهمذاني وياقوت الحموي.
مع هذا؛ كنت أعرف من محيطي الاجتماعي/الثقافي أن “الجواء” التي لا تبعد عن بلدتي أكثر من 25 كيلا، والتي كثيرا ما خرجنا إلى ضواحيها للتّنزه في أيام العطلات الأسبوعية، هي ذاتها موطن أحد أشهر أصحاب المعلقات/عنترة بن شداد، وأن عنترة ذكرها في مفتتح معلقته عندما قال:
يا دار عبلة بالجواء تكلمي * وعمي صباحا دار علبة واسلمي
وتحلّ عبلة بالجواء وأهلنا * بالحَزْن فالصـمّان فالمتثلمِ
أتذكر في تلك الأيام التي حفظت فيها المعلقات عن ظهر قلب، وغيرها من قصائد الجاهليين، أن الوالد ـ حفظه الله ـ أخذنا في رحلة/عمرة، تمر بالمدينة المنورة، وصولا إلى مكة. بين مديتي في “القصيم” وبين “المدينة المنورة” مسافة خمس ساعات للسفر بالسيارة. منذ بدأنا المسير والوالد يحدّثنا عن معالم الطريق الصحراوي الذي يتعين عليا اجتيازه. بعد ساعة تقريبا بدأ يقترب منا جَبل عظيم، بدا وكأنه يعترض الأفق أمامنا، وهنا قال الوالد: هذا “أبانين”، هذا “أبان”، هكذا نطقه باللفظتين عفويا. وهنا سألته بلهفة الواجد ودهشة المكتشف: هل هذا هو الجبل الذي يذكره امرؤ القيس في معلقته قائلا ـ يصف السحاب الممطر القادم من جهة الغرب:
كأن “أبَانَا” في عرانين وَبْله كبيرُ أناسٍ في بِجاد مُزَمّلِ
أجاب الوالد: أكيد.
دخلت في حالت شرود وأنا أتأمل هذا الجبل المتضخم أفقيا وهو منقسم إلى جبلين متمايزين، يفصل بينهما وادي الرمة العظيم (لهذا يسمى بالعامية: أبانين، قديما: أبان الأسود وأبان الأبيض، والآن: أبان الأسمر وأبان الأحمر). أتأمل الجبل؛ وفي الوقت نفسه أتخيل امرؤ القيس ينظر إليه من بعيد والسحاب يظلله بأمطاره التي تحوّلت إلى رداء يكسوه؛ كما يبدو المنظر من بعيد.
وتزداد حماستي، ويتصاعد مستوى تفاعلي؛ عندما يقودني هذا التخيّل إلى حتمية جغرافية بيئية، تؤكد لي أن أمرؤ القيس كان ـ وفق منطق الأماكن التي ذكرها في معلقته ـ يعيش في حدود بلدتي؛ إذ من جهة هذا الجبل الواقع غربا تشرق الأمطار عليها. وهنا أسأل الوالد: هل يوجد جبل في هذه الناحية باسم “قطن”، فيرد بالإيجاب، ويشير إلى الشمال الغربي من أبان، وأنه في هذه الناحية. هنا، ولكي تكتمل الصورة؛ أربط البيت الأول بالبيت التالي الذي يحدد مسار تلك الساحبة، بالقدر الذي يحدد مكان امرؤ القيس منها:
على “قَطَنٍ” بالشَّيْمِ أيْمَنُ صَوْبِهِ * وأيْسَرُهُ على السّتارِ فَيَذْبُلِ
إذن، كان امرؤ القيس، وهو يتأمل هذا السحاب القادم من الغرب، يقف حيث أقف غدوة وأصيلا. أنا هنا أغرس أقدامي الثقافية (وثقافتي آنذاك هي في حدود الشعر الجاهلي) في هذه الجغرافيا التي أنبتت امرؤ القيس وعنترة، ثم سأكتشف بعد أيام أنها أنبتت زهير أبن أبي سلمى ولبيد وبشر بن أبي خازم والنابغة الذبياني ومالك بن الريب…إلخ. سأكتشف حجم ثروتي الجغرافية/الثقافية بعد أن أُسَارِع فأستعير ذلك الكتاب الجغرافي الأدبي (“معجم بلاد القصيم” لـ محمد العبودي) من المكتبة العامة، وهو الكتاب الذي سيجعلني أغرق أكثر فأكثر في زهو المكان المتوهج بأرقى وأعظم صور الأدب/ العلم/ الفن: الشعر الجاهلي؛ كما كنت أتصوره/ أتوهمه آنذاك!
بعد قراءتي لهذا الكتاب المعاصر (الذي يقطن مؤلفه في البلدة المجاورة لبلدتي في منطقة القصيم)؛ أستطيع الربط بين هذه الأماكن الحاضرة التي أتنقل في جنباتها بين الحين والآخر، وبين تلك الأماكن التاريخية التي أكسبتها القصائد الجاهلية قدسية عالية؛ حتى لكنت أظنها تستعصي على الوجود العيني؛ فكأنها من عالم الخيال المحض الذي لا وجود له إلا وجودا عابرا على ألسنة الشعراء.
تحوّلت قراءتي للشعر الجاهلي من قراءة كُتُبيّة/ ورقية إلى قراءة جغرافية للأماكن التي خلدها هذا الشعر، وقد استغرقتني هذه الأماكن التي بت لا أرى وجودي إلا من خلالها؛ من حيث كوني ـ وفق تصوراتي البدائية ثقافيا/ الانغلاقية آنذاك ـ وريثا شرعيا لهذا المكان المقدس الاستثنائي، وللأدب المقدس الذي خلقه هذا المكان الاستثنائي؛ وها هو الآن يخلقني من جديد؛ لأعيد ـ كما كنت أتوهم ـ أسطورة المكان العابرة للزمان.
كنت كلما قرأت أكثر في هذه الجغرافيا الأدبية؛ نمت أوهامي عن استثنائيتها، ومن ثم عن استثنائيتي! لم يكن غروري الساذج ليتوقف نمّوه المتصاعد وأنا أقرأ قول زهير بن أبي سلمي:
لمن طلل كالوحي عاف منازله * عفا الرّسّ منه فالرّسيس فعاقله
أو قوله في معلقته يصف رحيل محبوبته وصُويحباتها:
بَكَرنَ بكورًا واستحرن بسحرة * فهن و وادي الرس كاليد للفمِ
ثم أعرف أن “الرس” و”الرسيس” و”عاقله” كلها أماكن يمكن أن تتنزل من سماء أساطير الشعر لأراها حقيقة ماثلة أمامي، حقيقة جغرافية حيّة تقع في حدود هذه المدينة الحديثة النابتة على ضفاف العراقة/ ضفاف وادي الرمة الذي هو أطول أودية جزيرة العرب على الإطلاق.
لا زلت أذكر أنني عندما طالعت كتاب (معجم بلاد القصيم) ووقعت عيني على استشهاده ببيت عنترة بن شداد في معلقته ـ واصفا ناقته:
شَرِبَتْ بماءِ الدُّحْرُضَينِ فأَصْبَحَتْ * زَوْراءَ تَنْفِرُ عنْ حِياضِ الدَّيْلَمِ
ومباشرة، حَدَستُ بأن “حياض الديلم” هنا ليست إلا بلدة “الدليمية” الواقعة غرب بلدتي، على طريق المدينة المنورة. وفعلا تأكد لي أنها كذلك؛ عندما أجلت ببصري في عموم الصفحة لمعرفة وجه الاستشهاد. وبما أن مسقط رأسي يقع بين “الجواء” التي ذكرها عنترة في مطلع معلقته، وبين “حياض الديلم/ الدليميّة” التي ذكر أن ناقته تمر بها، نافرة عنها، فهذا يعني أن الأسطورة الكبرى الخالدة في وعي العرب على امتداد خمسة عشر قرنا/ عنترة بن شداد، طالما مرّ بي في ذهابه وإيابه، مترددا بين هذه الأماكن التي إن كانت الآن هي أماكن نزهتي، فهي كانت أماكن نزهته، ولولا الفاصل الزمني الذي يكاد يكون وهما/ حلما، لا يكف عن التلاشي المستمر؛ لكان المكان بحقيقته الثابتة/ الملموسة قادرا على أن يجمعنا، قادرا على أن يجعلني أصافح بيديّ أبطال السّير الأسطورية في صورتهم الأولى، قبل أن يتحولوا إلى أساطير مستحيلة عابرة للزمان وللمكان، بل وللإنسان.
تضيق المساحة هنا عن ذكر “الأماكن المقدسة شعرا”، الأماكن التي عرفتُ من خلالها كيف أن كيمياء الجغرافيا قادرة على أن تخلق خمرتها من الحجر الصلد، وتستنبت جنّتها من الأرض القفر اليباب. لن تكون “رامة” أو “رامتان” ولا “الغضا” وكثبانه…إلخ الأماكن التي أعيد اكتشافها والتبتل في محاريبها، إلا معارج من نور للاستغراق في وهم الاستثناء الجغرافي/ الأدبي الذي “تدروشت” به؛ حتى ظننت أن العالم كله هنا، ولا شيء خارج هذا العالم الذي لا مكان ولا إنسان، سوى إنسانه القديم الذي لم يبق منه سوى الشعر، ومكانه الخالد الذي يستحضر خيال ذلك الإنسان.
استمر معي هذا الوهم: الانغلاق المعرفي/ الانغلاق الوجداني لمدة عام أو أكثر قليلا. ثم بدأت أقرأ للشعراء الأمويين والعباسيين، وقادني هذا إلى كتب الأدب والتاريخ والتراجم، كتب الجاحظ والمبرد والطبري وابن قتيبة والقالي وابن عبد ربه…إلخ ذات المصادر المتعددة، فلم أبلغ العشرين حتى كادت تلك الأماكن التي طالما سحرتني، وأولئك الشعراء الذي طالما استرهبوني عظمة وإبداعا، أن تكون ويكونوا محل سخرية وازدراء، وكدت أهتف مع أبي نواس قائلا: “عاج الشقي على رسم يسائله”؛ لولا أن الحنين الطفولي يرجع بي إلى مرابعهم بين الحين والآخر، فضلا عن كوني؛ كما أبو الطيب:
خلقت ألوفا لو رجعت إلى الصبا * لفارقت شيبي موجع القلب باكيا
لقد كان تراث الأدب العباسي هو بداية الانفتاح الذي توالت متتالياته الأدبية والنقدية والفكرية والفلسفية، حتى لم يعد الأدب العربي هو الأدب الوحيد المستحق للأدبية كما كان، بل اتسع باتساع العالم الذي كفّ أن يكون ـ في مخيلتي ـ شعرا، بل أصبح شعرا ونثرا، أدبا وفكرا، جغرافيا وسياسية، مذكرات وسير ورحلات، فلسفة وفنا، أنثروبولوجيا وإحياء…إلخ، أصبح الإنسان لدي ليس ابن الجغرافيا ولا العرق ولا الدين، وإنما ابن المبادئ الإنسانية العامة التي تتغيا الخير للإنسان من حيث هو إنسان. وباختصار، انفتح العقل، وتحرر من ضيق الانغلاق المعرفي، فانفتح الوجدان تبعا له؛ لأن من يقرأ أو يحاول أن يقرأ “من كل” ما يخطه الناس؛ سيحبّ ـ في النهاية ـ كل الناس.
الحرة