يتشبع الفضاء الديني، كما الفضاء التاريخي، بالرموز التي تتقاطع ـ في بعض سياقاتها ـ مع مسارات الأسطرة المرتبطة بجدلية الحضور والغياب؛ بقدر ما هي مرتبطة بجدلية الممكن والمستحيل في المنطقة الفاصلة بين الواقع والمأمول. لا دين بلا ترميز، كما لا تاريخ بلا رموز، والدين والتاريخ إذ يشتغلان على الرمز والترميز، وإذ يفعلا وينفعلا بهما، فإنما يحملان ألقَ المعنى المتجاوِز الذي يريد الإنسان الاحتفاظ به كمركز التجاء وحماية ضد القلق الوجودي الذي يخترق ـ بالضرورة ـ عالم الإنسان من حيث هو إنسان.
لا إنسان ـ الإنسان المعنى ـ بلا تاريخ، كما لا إنسان بلا دين؛ أيا كان تمظهر هذا الدين، حتى ولو كان “دين اللادين”. وإذ لا دين ولا تاريخ بلا رمز وترميز، فمنطقيا؛ لا إنسان بلا رمز وترميز. ومن حيث كون الترميز في مساره الديني أو التاريخي يتجاوز الواقع؛ ليخلق من خلال الواقع معنى أكبر وأشمل وأبقى، فلا مناص من انطباع العملية الترميزية ذاتها بملامح أسْطَرَة، قد تكون هذه الأسطرة بادية للعيان، وقد تكون متضمنة على نحو خفي يسترها التوسل بالوقائعي والعيني.
وإذا كانت الرموز منذ القِدم تتعولم على نحو بطيء بسبب صعوبة وبطء التواصل الثقافي آنذاك؛ فإن عولمة الرموز اليوم، بفضل شبكات الإعلام والتواصل، تصل بها إلى مداها الأقصى، سواء في الرموز الإشاراتية، أو الكلامية، أو الشخصية/ الأشخاص الرموز. فالأعلام الثقافية التي تشير إلى توجهات ثقافية/ مسلكية، والأعلام الوطنية/ أعلام الدول، وكذلك الشخصيات الكبرى المُرَمزة سلبا أو إيجابا، فضلا عن الألوان في دلالاتها العامة/ العالمية، كل هذه أصبحت معروفة على مستوى العالم أجمع؛ رغم أنها بدأت في نطاق حيز جغرافي/ ثقافي خاص.
بلا شك، لا بد أن يتضمن الرمز شيئا من المعنى الواقعي، أو من بقايا هذا المعنى، فمثلا، اللون الأخضر الذي هو شعار حماية البيئة، لم يجر اختياره اعتباطا، وكذلك الأمر في أعلام الدول. لكن، يبقى أن الرموز التي تنحدر إلينا من زمن تاريخي طويل قد لا تشي ببداياتها، والأغلب أنها انفصلت عنها، وأصبحت بذاتها دالا يستقل بمعناه المتعارف عليه في سياق ثقافي ما. ومن هنا، اختلاف دلالة بعض الألوان إلى درجة التضاد؛ كما هو الحال في اللون الأبيض الذي كان هو لون الحداد/ الحزن في بعض الثقافات (الأندلس كمثال، عكس العرف الذي يكاد يكون عالميا). وهذا مما يُرجح اعتباطية العلاقة في هذا المجال.
طبعا، لا تخضع الرموز المختلف عليها، الشخصية أو العلاماتية، لما أتعمد مقاربته في هذا المقال. فالرموز التي تتجاذبها الثقافات أو الأديان أو المذاهب بين تقديس وتدنيس، ليست المستهدفة بهذه المقاربة العابرة، إذ كما هي مجال اختلاف رمزي، هي مجال اختلافي وقائعي.
على وجه العموم، ما أريد مناقشة هو التصوّر المتضمن في الرموز وعن الرموز (بصرف النظر على واقعها التاريخي/ حقيقتها) التي هي محل إجماع، أو تكاد أن تكون محل إجماع بأي مستوى: مذهبي، ديني، عرقي، قومي، عالمي. فهذه الرموز هي التي يكون الموقف منها ـ من حيث دلالتها الرمزية ـ موقفا أخلاقيا؛ بصرف النظر عن البحث المعرفي الموضوعي في هذا المجال.
لنأخذ مثلا، الشخصية الرمز/ هتلر، الذي أصبح رمزا للانتهاك الممنهج لحقوق الإنسان، رمزا للجريمة المنظمة التي ترتكبها الدولة في مؤسساتها الكبرى، رمزا للتوحش الإنساني في مداه الأقصى والأشنع والأفظع. هنا، ليس المهم البحث في تفاصيل ما فعل هتلر، وإنما المهم هو البحث عن الموقف الأخلاقي مما أصبح هتلر يرمز له؛ بعد أن تحول من واقعة محددة إلى رمز عام يتجاوز حيثيات الواقعة المجردة. وهنا يلاحظ، أن هتلر كواقعة تاريخية كان ـ من حيث هو كفاعل؛ مع ما ارتبط به من كوادر ومقولات ثقافية، ومن حيث الأهداف المباشرة له كظاهرة سلبية ـ واقعة/ حدثا غربيا بامتياز. غير أنه فيما بعد تَعوْلَم كرمز للشر المطلق؛ بقوة زخم الثقافة الغربية المهيمنة التي أصبحت هي ثقافة العالم.
بعد هذا التحول من الواقعي إلى الرمزي، لا يجدي أن يتحدث أحد بالتعاطف مع هتلر؛ زاعما إن لم يكن ـ واقعيا ـ بالمستوى السلبي الذي يتضمنه المعنى الرمزي. فأولا، هذا المعنى الرمزي لم يتكوّن عبثا، أي لم يصل لهذا المستوى؛ من دون وقائع وشواهد وقرائن يستحيل التنكر لها؛ فضلا عن إنكارها. والمقصد أن هناك مستوى عاليا من السلبية التي جعلته جديرا بأن يدخل في عملية ترميز كهذه؛ بصرف النظر عما لحق بالأصل الوقائعي المتخيل من مبالغات قد لا تكون كما هي الواقع تماما. وهذا يتضح أشد ما يتضح فيما لو حاولنا ـ عبثا ـ قلب مواقع الرموز، أي لو حاولنا مثلا ترميز هتلر كمثال للتسالم والتسامح الذي يرمز له نيلسون مانديلا، وفي المقابل ترميز نيلسون مانديلا كمثال للشر المطلق الذي يرمز له هتلر. طبعا، هذا مستحيل، وما يجعل هذه المحاولة مستحيلة هو ذاته ما يصنع مشروعية الرمز/ الترميز الذي يتجاوز مُحددات الواقع المتعين.
إن معظم العرب اليوم يخوضون في اشتباك حاد حول الشخصيات التاريخية في الإسلام. وهم إذ يفعلون ذلك يتجاوزون ـ جهلا أو تجاهلا ـ هذه العلاقة بين الوقائع/ الأشخاص ودلالاتها الرمزية. ولعل هذه يظهر جليا فيما نراه من التنازع الطائفي الذي يتكرر كل عام في عاشوراء/ ذكرى مقتل الإمام الحسين. فمما لا خلاف فيه بين السنة والشيعة أن الحسين يُمثل رمزية للخير/ للعدالة/ للتدين (وهو اليوم رمزية تتجاوز الإطار الإسلامي/ تتعولم، وذلك في أكثر من معنى إيجابي)؛ إلا أن الجدل المفتعل يحدث على التفاصيل، وأحيانا على تفاصيل التفاصيل في سياق المناكفات الطائفية الحمقاء.
اليوم، وفي سياق ظاهرة التدافع الطائفي على خلفيات تتجاوز الدوافع الدينية، ينحو بعضهم ـ وفي هذا السياق بالذات ـ للتخفيف من دلالات الرمزية التي تكونت عبر تاريخ طويل؛ متوهما أنه بذلك ينتصر لطرف ضد طرف، بينما هو في الحقيقية ينتصر لرموز العدوان والقهر والظلم في التاريخ البعيد، وأحيانا ضد الرمز/ المعنى المقابل لذلك في التصور الأخلاقي. وإذا كان هذا يجري في الماضي تحت مظلة ادعائية/ دعائية من التحقيق العلمي الكاذب، فإنه اليوم يجري بصورة هي مثال الوقاحة الأخلاقية، أي بصورة نَزِقة تُبدي استعداها الكامل للاصطفاف مع الشر/ رمزية الشر؛ لمجرد توهم أن هذا يغيظ الخصم الطائفي!
لا يهم اليوم تفاصيل ما جرى في الملحمة/ المأساة الكربلائية التي تناقلتها الذاكرة الجمعية طويلا، لا يهم كيف ومتى دخلت فيها كثير من ملامح الأسطرة؛ كجزء من سياق العمل الترميزي على امتداد ما يناهز الأربعة عشر قرنا. ما يهم، أن الحسين أصبح رمزا إسلاميا، بل وعالميا ـ وليس مذهبيا فقط ـ لأشواق العدالة، بينما تحول قاتلوه إلى رموز للظلم والطغيان. ولا يستطيع العبث أو الشغب على تصور الواقعة التاريخية معرفيا أن يُغير من اتجاه بوصلة المتحقق الرمزي في الضمير الإسلامي، ومن ثم العالمي.
إن هؤلاء وهؤلاء، الذين كانوا أضدادا في الواقع المنصرم/ التاريخ، هم الآن، من حيث حضورهم الراهن، أضداد في المعاني الرمزية. إنهم اليوم مجرد رموز دينية/ تاريخية، تنطق بدلالاتها على نحو واضح، ولا علاقة للإنسان المعاصر بما جرى في ذلك التاريخ البعيد إلا من خلال هذه الدلالات الرمزية؛ بعيدا عن تفاصيل التصورات الدينية/ المذهبية التي تنطلق من هذه المعاني العمومية لتصل إلى تفسيرها الخاص.
أخيرا، قد يكون الموقف من الشخصيات/ الرموز التاريخية غرقا في الماضوية، وقد لا يكون. الغرق في تفاصيلها، والاشتباك مع هذه التفاصيل وتخيلها كوقائع تجري في الواقع رأي العين، والانهماك فيها كأحد أطرافها المباشرين لها، هو غرق في الماضوية بلا شك. لكن، تحمل مسؤولية العبء الرمزي العام لما حدث في الماضي، هو موقف أخلاقي في الراهن. فلا يمكن لأحدهم أن يقول: ليس لي أي موقف من أفعال هولاكو أو ستالين… إلخ هذه الرموز، باعتبار أن ما يمثله هؤلاء مجرد ماض انصرم عقده، ثم هو يدعي ـ في الوقت نفسه ـ أنه ينطوي على موقف أخلاقي منحاز للإنسان/ للإنسانية في الراهن.
الحرة