السلايدر الرئيسيتحقيقات
“” تفتح ملفّ الاستفزازات التركيّة في جزيرة قبرص: بين التناحُر الدمويّ وملابسات التقسيم (1ـ 2)
جمال دملج
ـ بيروت ـ من جمال دملج ـ في مثل هذا الشهر من عام 2017، وبينما كانت قوّات حرس السواحل القبرصيّة توجِّه إنذارًا عبْر مكبِّرات الصوت لسفينة “برباروس خير الدين باشا” التركيّة لدى اقترابها من المياه الإقليميّة للجزيرة المتوسِّطيّة المقسَّمة منذ عام 1974، سارع القبطان التركيّ إلى الردّ على الإنذار عن طريق تشغيل النشيد العسكريّ العثمانيّ من هاتفه المحمول عبْر مكبِّرات الصوت أيضًا، الأمر الذي جسَّد في حينه أحد أشكال التحدِّيات السافرة لسيادةِ دولةٍ مستقلَّةٍ ومنضويةٍ تحت لواء الاتّحاد الأوروبيّ، فضلًا عن أنّه كاد يتسبَّب في إعادة أجواء التوتُّر المتوارَث أبًا عن جدٍّ بين أبناء الجاليتين القبرصيّتين المتناحرتين اليونانيّة والتركيّة، ولا سيّما أنّ الزهوّ الواضح في طريقة الترويج لخبر التحدّي في معظم وسائل الإعلام التركيّة، وخصوصًا من جهة الإشارة إلى قبرص بصفةِ “الجمهوريّة الروميّة”، نسبةً إلى طائفة الروم الأرثوذكس، سرعان ما أجَّج المشاعر القوميّة والدينيّة في أوساط القبارصة اليونانيّين الذين بادروا على الفور إلى تنظيمِ حملةٍ واسعةِ النطاق من أجل مطالبة الأسرة الأوروبيّة بممارسة الضغوط اللازمة على سلطات “جمهوريّة شمال قبرص التركيّة” لإزالة علَمها المحفور فوق تراب جبال الأصابع الخمسة (بيندي داكتيلوس) المطلَّة على الشطر اليونانيّ ـ الأوروبيّ من العاصمة نيقوسيا، وهي الحملة التي كان من المتوقَّع أن تخلِّف وراءها الكثير من التداعيات الخطيرة لولا تدخُّل الرئيس القبرصيّ نيكوس أناستاثيادس في الوقت المناسِب لتهدئة الناشطين والحدِّ من منسوب توجُّسهم من عبثيّة التحدّي التركيّ، وذلك على خلفيّة إيمانه الراسخ بوجوب المحافظة على مقوِّمات الاستقرار في الجزيرة عن طريق عدم إفساح المجال أمام العابثين للقيام بأيِّ عملٍ تهوُّريٍّ من شأنه أن يؤدّي إلى انفلات الأمور وخروجها عن السيطرة.
مرحلة الاستقلال
لا شكّ في أنّ العادة درجت على استخدام مصطلح “الروميّين” بشكلٍّ مكثَّفٍ في الأدبيّات التركيّة منذ استقلال قبرص عن بريطانيا عام 1960، وذلك بعدما أسفرت نتائج أوّل انتخاباتٍ رئاسيّةٍ أُجريت وقتذاك عن فوز الأسقف الأرثوذكسيّ ميخاليس موسخوس مكاريوس بأغلبيّةٍ ساحقةٍ، الأمر الذي أثار حفيظة المسلمين من أبناء الجاليّة القبرصيّة التركيّة الذين يشكِّلون نسبة الثُلث من عدد السكّان، وتحديدًا ما مجموعه حوالي مئتيْ ألفَ نسمةٍ من أصل ستّمئةِ ألفِ نسمةٍ، علمًا أنّ وثيقة الاستقلال كانت قد تضمَّنت بندًا صريحًا ينصُّ على وجوب أن يشغل أحد القبارصة الأتراك منصب نائب الرئيس، وليس الرئيس، وهو المنصب الذي فاز به خلال ذلك العام الزعيم القبرصيّ التركيّ (الراحل) رؤوف دنكتاش.
سياسة “فرِّق تسُدْ”
وإذا كان من حسن حظّ الجمهوريّة الوليدة أنّها سارعت إلى الاتّجاه صوب معسكر حركة عدم الانحياز، وخصوصًا في زمان القادة الكبار من أمثال اليوغسلافيّ جوزيف بروز تيتو، والكوبيّ فيدل كاسترو، والهنديّ جواهر لال نهرو، والإندونيسيّ أحمد سوكارنو، والمصريّ جمال عبد الناصر، فإنّ ما كان من سوء حظّها هو أنّ الروح الاستقلاليّة الحديثة العهد لم تحُل دون استمرار تفاعُل أزمة الثقة المتبادَلة ما بين القبارصة الأتراك وما بين القبارصة اليونانيّين، الأمر الذي ساهم حينذاك في إيجاد أفضل مسرحِ تجاربٍ لاختبار جدوى النزعة البريطانيّة الشهيرة والقائلة بمبدأ سياسة “فرِّق تَسُد” على الأرض، ولا سيّما أنّ البريطانيّين كانوا قد احتفظوا لأنفسهم خلال مرحلة ما بعد الاستقلال، ولا يزالون، بحقِّ السيادة على قاعدتين عسكريّتين، إحداهما في “أكروتيري” قرب مدينة ليماسول والأخرى في “ذيكيليا” قرب مدينة لارنكا، إضافةً إلى محطّة رادارٍ ضخمةٍ في جبال “ترودوس” قُدِّر لها أن ترصد خلال التاريخ الحديث كافّة الاتّصالات السلكيّة واللاسلكيّة على طول وعرض المنطقة الجغرافيّة الممتدَّة ما بين الشرق الأوسط وما بين الاتّحاد السوفييتيّ.
التناحُر الدمويّ والعوامل الخارجيّة
على هذا الأساس، وفي سياق استرجاع الوقائع التاريخيّة للمسألة القبرصيّة وفقًا لتسلسها الزمنيّ، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ الخلافات بين الجاليتين القبرصيّتين التي بدأت عام 1963 بأشكالٍ أخذَت في معظم الأحيان طابعًا تناحُريًّا دمويًّا، كانت قد دفعت منظّمة الأمم المتّحدة إلى إرسال قوّاتٍ لحفظ السلام في الجزيرة، أملًا في المساعدة على ضبط إيقاع دورة الحياة اليوميّة في أوساط المتناحِرين الذين كانوا لا يزالون يعيشون مع بعضهم البعض في معظم المدن والقرى، الأمر الذي كاد يتحقَّق بالفعل خلال السنوات التالية، لولا ظهور بعض العوامل التأجيجيّة الخارجيّة في مطلع سبعينيّات القرن العشرين، ولا سيّما بعدما راحت منطقة البلقان بأسرها تغلي باضطرادٍ على نار صراعٍ نشب في بحر إيجه بين اليونان وتركيا حول حدود الجُرف القارّيّ في مياههما الإقليميّة، وذلك بينما كان الجيش التركيّ الذي أُرغم على التخلّي عن السلطة لصالح حكومة بولاند أجاويد المدنيّة يبحث عن العمليّة التي سيردُّ من خلالها الاعتبار إلى هيبته، وكذلك بينما كان العساكر الفاشيّون الذين تسلَّموا سدّة الحكم في اليونان، إثر انقلاب ديميتريوس إيونيدس عام 1973، يبحثون بدورهم عن الفرصة المناسِبة لاستعادة ما ضيَّعه جورج باباذوبولوس في الملعب التركيّ في أعقاب انقلابه على الملك قسطنطين قبل ذلك بنحو ستّةِ أعوامٍ من الزمان.
الانقلاب… ثمّ الغزو
وفي خضمّ معمعة تلك التطوُّرات المتلاحِقة والمتسارِعة، كان لا بدَّ لقبرص من أن تبدو في أعين المتنافسين الخارجيّين مثل كومةٍ من القشّ يمكن إشعال عود الكبريت فيها بكلِّ سهولةٍ، حيث اندلعت الشرارة الأولى عمليًّا يوم الخامس عشر من شهر تمّوز (يوليو) عام 1974 عندما قاد الضابط في الحرس الوطنيّ القبرصيّ نيكوس سامبسون انقلابه الشهير على حكومة الأسقف مكاريوس بإيعازٍ من حكومة إيونيدس العسكريّة في أثينا التي كانت تتلقّى الدعم من الولايات المتّحدة الأميركيّة، وذلك قبل أن ترفع هذه الحكومة العسكريّة نفسها في اليوم التالي شعار “الإينوسيس”، أي الاتّحاد، وهو الشعار القائل بأنّ جزيرة قبرص يونانيّةٌ بكامل أراضيها، الأمر الذي كان لا بدَّ له من أن يدفع أنقرة في الموازاة على الإسراع في التحرُّك يوم العشرين من الشهر نفسه من أجل حماية القبارصة الأتراك من مخاطر انقلاب سامبسون، ولا سيّما أنّ الرجل كان ينتمي إلى منظّمةٍ يمينيّةٍ متطرِّفةٍ تدعى “إيوكا فيتا”، وهي المنظّمة التي عُرِف عنها تبنّيها منذ مطلع الستّينيّات لكافّة عمليّات الاضطهاد التي تعرَّض لها أولئك القبارصة الأتراك داخل ديارهم في سياق التناحُر الآنف الذكر خلال مرحلة ما بعد الاستقلال.
خريطة التقسيم
وإذا كان الغزو التركيّ لشمال الجزيرة قد تمَّ على هذا الأساس، فإنّ اللافت هنا هو أنّ الفترة الزمنيّة للعمليّات العسكريّة ما بين الطلقة الأولى وما بين الطلقة الأخيرة لم تستغرق أكثر من ستّةِ أيّامٍ فقط، ولم تخلِّف وراءها أكثر من خمسةِ آلافِ ضحيّةٍ، وقرابة ألفٍ وستِّمئةٍ وعشرينَ مفقودًا، الأمر الذي يتأكّد بوضوحٍ إذا وضعنا في الحسبان أنّه منذ يوم السادس عشر من شهر آب (أغسطس) عام 1974 ولغاية الوقت الراهن، أي منذ تقسيم قبرص إلى قطاعين أحدهما يونانيّ (62 %) والآخر تركيّ (38 %) من مساحة الجزيرة، لم يحدُث أن سُجِّل أيُّ خرقٍ لاتّفاق الهدنة بين الجانبين إلّا مرّتين وحيدتين في صيف عام 1996، وذلك عندما قَتَلَ جنديٌّ تركيٌّ بدمٍ باردٍ شابًّا قبرصيًّا يونانيًّا يدعى سولوموس سبيرو سولومو بينما كان يحاول إنزال العلم التركيّ من ساريته في منطقة “الخطّ الأخضر” الفاصل بين القطاعين اليونانيّ والتركيّ من العاصمة نيقوسيا، احتجاجًا على قيام الجنود الأتراك بقتل ابن خاله أناستاسيوس إسحاق وشابّين آخرين في المنطقة نفسها قبل ستّةِ أيّامٍ من ذلك التاريخ المشؤوم، علمًا أنّ الأمور كادت تخرج عن السيطرة إثر تلك الحادثة بشكلٍ خطيرٍ جدًّا، على غرار ما حصل لاحقًا في أعقاب حادثة سفينة “برباروس خير الدين باشا” الآنفة الذكر، وهي الحادثة التي يبدو أنّ الأتراك لا يزالون يحاولون تكرارها عن سابقِ عزمٍ وتصميمٍ، وبتهوُّرٍ شديدٍ يندرج في سياق العبث الطائش، وإلّا، لما كانت السلطات القبرصيّة قد أصدرت اليوم الاثنين مذكّراتِ اعتقالٍ دوليّةٍ بحقِّ طاقمِ سفينةِ تنقيبٍ تركيّةٍ عن الغاز الطبيعيّ في “المنطقة الاقتصاديّة الخاصّة” بقبرص… وللحديث عن نزعات التهوُّر التركيّ في الجزيرة المتوسِّطيّة الجميلة تتمّة.
الكاتب يتجاهل محاولات توحيد جزيرة قبرص، ورفض القبارصة اليونانيين لها، و موقف الاتحاد الاوروبي الغريب بضمهم اليه عقب ذلك، دون التوصل الى تسوية الخلاف مع القبارصة الاتراك. واقع الامر ان الجزيرة مقسمة، ولا تبدو هناك تسوية في الافق، و قبرص اليونانية تبدو عازمة على المباشرة بالتنقيب، وعليه، يحق للقبارصة الاتراك التنقيب عن الموارد المتواجدة في حدودهم ايضا، كما يحق لتركيا التدخل كونها دولة ضامنة لهم حسب دستور انشاء دولة قبرص.