أزراج عمر
لا يخفى على أحد أن النظام الجزائري تمرس على استنساخ نفسه كلما تعرض لهزة من الهزات، وذلك منذ الاستقلال إلى اليوم، وإلى جانب ذلك فإن الجيش الجزائري (وهو النظام الحقيقي) هو الذي يقوم بتنفيذ عمليات الاستنساخ هذه، أما ما يسمى بالسياسيين الجزائريين فهم مجرد ديكور خارجي للعملية السياسية، وهكذا فمن الملاحظ أن ما يحدث الآن ليس سوى حرب مناورات ومواقع بين أصحاب الحل والربط داخل سراديب هذا النظام خاصة على مستوى العسكر وأجهزة الأمن.
أما تنحية هذا الوزير أو تعيين وزير آخر فليس سوى تغطية لأهداف كبرى تتمثل في إعادة طباعة النظام في طبعة منقحة مع الإبقاء على جوهر المضمون القديم.
في مثل هذا المناخ فإن الأشخاص هم الذين يغيرون ويستبدلون، أما بنية نظام الحكم فتبقى دوما كما هي دون زيادة أو نقصان.
وفي الحقيقة فإن هذه الصيغة هي التي أتت بمعظم القيادات الجزائرية إلى مختلف أجهزة الدولة وفي الصدارة الرؤساء الجزائريون وهي التي لعبت الدور المفصلي في إقالتهم وإقصائهم أو سجنهم أو قتلهم كما حصل مع الرؤساء السابقين أحمد بن بلة والشاذلي بن جديد ومحمد بوضياف، وكما حدث في الأسابيع الماضية مع الرئيس السابق عبدالعزيز بوتفليقة الذي أخرج من النافذة بعد أن تُرك له المجال لتدمير التعددية الحزبية وتكريس صيغة الحكم بواسطة العصبية العائلية والجماعة التلمسانية.
وفي هذا السياق نجد المهتمين بالشأن الجزائري متشائمين حيث يعتقدون أن إيداع كل من رئيسي المخابرات الجزائرية السابقين الجنرال توفيق والجنرال عثمان طرطاق، والسعيد بوتفليقة السجن تمهيدا لمحاكمتهم بتهم مختلفة، لن يؤدي إلى تغيير النظام وأبنيته المعلنة والمضمرة، مثلما يرون أن عدم تنحية رئيس مجلس الأمة السابق ورئيس الدولة المؤقت عبدالقادر بن صالح، والوزير الأول السيد بدوي هو بمثابة القبض على العصا من الوسط من طرف مؤسسة الجيش ولا يدخل ذلك في نطاق الحفاظ على سير الإدارة والحيلولة دون تفريغ الدولة من الكفاءات التي تسهر على الشأن العام خاصة.
وهنا ينهض هذا السؤال التالي: هل بمقدور الحراك الشعبي الجزائري أن ينجز القطيعة الشاملة مع كيان النظام الذي خنق الجزائر وأجهض التغيير الحقيقي دون أن يتسبب ذلك في هدم كل ملامح النظام القديم وتنفيذ عملية انتحارية بالنسبة للجمهورية الثانية خاصة وأن السعي إلى الإطاحة بكل رموز النظام السابق يمكن أن يصيب بنيان الإدارة والمؤسسات بالتصدع؟ حسب تساؤل زميل إعلامي تونسي تشغله هموم الوضع الجزائري، ثم هل سيتجاوز هذا الحراك الشعبي المحنة والركود والإفلاس الشامل، أم سيكتفي بإعادة الوجوه القديمة التي شاركت في الماضي وفي الوقت الراهن وبطرق مختلفة في خلق الأزمة الوطنية؟
ينبغي أن نأخذ بعين الاعتبار أن النظام الحاكم في الجزائر أكثر تعقيدا من مجرد تنحية مجموعة من السياسيين والعسكريين الفاسدين، ولذلك فإن اختزال هذا النظام في الشخصيات العسكرية والأمنية والسياسيين ذوي النفوذ، هو تفكير تبسيطي يرسخ المظهر الخارجي لبنية النظام ذات الذيول المتعددة.
ومن هنا فإن المحللين السياسيين المهتمين بالشأن الجزائري يرون أن أي تغيير راديكالي إيجابي في بنية السطح لن يفيد في شيء إذا لم يتزامن مع إحداث التحويل الكلي للمنظومات المذكورة آنفا. ففي مذكراته المطبوعة أبرز الشاذلي بن جديد، مثلا أن هيمنة ثقافة الحكم العسكري متأصلة في تجربة حركة التحرر الوطني، وهي التي فرخت الصراع على السلطة بالسلاح في أوائل فترة الاستقلال.
يكشف التاريخ المعاصر أن معظم الأحزاب المهمة في التاريخ الجزائري ليست لها مشاريع مؤسسة على المنظومات الفكرية والحضارية، وبالعكس فإننا كثيرا ما نجدها تخضع للزعامات الفردية التي تتسبب في انفجار الصراعات الخالية من أي هدف حضاري، وها نحن نشاهد اليوم واقع الأحزاب الجزائرية التي تعيد إنتاج هذه النمطية، حيث نجد أفرادا نرجسيين يسيطرون عليها ولا يرحلون عنها إلا بسبب الموت أو نتيجة انقلاب هذا القيادي أو تلك المجموعة في هذا الحزب أو ذاك على هذا الأمين العام أو ذاك.
فهل تختلف عقيدة وخيارات الحراك الشعبي عن ركام التراث العشائري والرأسمالي السائد في الجزائر؟ ولماذا لم يفرز الحراك بديلا فكريا وعقائديا حتى الآن يتجاوز النسخ المكررة للتيارات التي يعرفها المشهد الجزائري منذ سنوات طويلة؟
ولماذا يصر الحراك الشعبي على تأجيل عقد ندوة وطنية تاريخية يتم فيها تشكيل قيادة نزيهة ومثقفة، ثم الإعلان عن القيادات التي ستقود مرحلة ما بعد تطهير البلاد من الفساد والدكتاتورية والانطلاق في بناء مرحلة جديدة فكرا وسلوكا سياسيا وبنية ثقافية وذهنية؟ وما هي هذه الجهات التي تعطل أو ترفض هذا الإعلان؟ ولماذا لم يعلن هذا الحراك عن بيانه الواضح والذي بموجب تطبيقه تشرع الجزائر في تأسيس عهد جديد؟
في هذا الخصوص أكد الكاتب الجزائري ميلود خيزار أن “الحراك لا يمكنه أن يفرز قيادة، لا الآن ولا بعد ألف سنة، وهذا لا يتعلق بإرادته بل بتكوينه وبطبيعة الظروف السياسية والتنظيمية المحيطة به، الحراك يشبه ذلك المحبوس الذي تدفّق دفعة واحدة عبر شقوق سدّ ينهار، وعليه فإنه لن يتمكن من إقامة ندوة وطنية تأسيسية تفرز قيادة وطنية، لأن ذلك يعني نهايته ولذا يصرّ على مطالبه كقيادة له، فما يجمعه هو المطالب، لا الأسماء.
هناك مسألتان جوهريتان: انعدام الثقة بين الشعب ونخبه الفعلية، وبين القيادات السياسية التي أفرزها الاستقلال بطرق غير شرعية، إضافة إلى وطأة هذه الذاكرة المجروحة بالقمع والقهر، الموروثة عن 57 سنة من حكم غير شرعي وغير ديمقراطي في توجيه المواقف الحقيقية”.