السلايدر الرئيسيشرق أوسط

قراءة لمستقبل الشرق الأوسط: بين عاصفة الـ “سوخوي” وهزّة الـ “إس 300” (2 ـ 3)

جمال دملج

بيروت ـ ـ بعدما كنّا قد تحدَّثنا البارحة عن بعض العوامل السياسيّة والعسكريّة والتكتيكيّة التي رافقت مسار بداية الحرب الروسيّة على الإرهاب في سوريا في مثل هذه الأيّام من عام 2015، فإنّ ذلك لا يُلغي بالطبع البديهيّة القائلة بأنّ العوامل الاقتصاديّة ذات الصلة بمصادر الطاقة وسبل السيطرة على إمداداتها في العالم، كانت بدورها من بين أهمّ الدوافع التي حفَّزت إدارة الرئيس فلاديمير بوتين على التعجيل في اتّخاذ قرار التحرُّك بسرعةٍ صوب المجال الحيويّ السوريّ، وذلك على خلفيّة عدّةِ اعتباراتٍ هامّةٍ سجَّلتها وقائع الأحداث، وعلى رأسها ما أُشيع في حينه عن أنّ تزامُن انفتاح الغرب الأميركيّ والأوروبيّ على إيران في أعقاب تسوية أزمة برنامجها النوويّ من جهةٍ، مع الهدنة غير المعلَنة بين “جيش الفتح” و”حزب الله” على جبهات القلمون، حيث يقع حقل قارّة للغاز المكتشَفُ عام 2011، من جهةٍ ثانيةٍ، كان كفيلًا بإثارة ارتياب موسكو من احتمال أن يؤدّي ذلك إلى وضعِ معادلةٍ اعتباطيّةٍ تقوم على أنّ الغاز القطريّ، زائد الغاز الموجود في حقل بارس الإيرانيّ، زائد الغاز المكتشَف في حقل قارّة السوريّ، يساوي ترانزيت في تركيا، قبل أن يُصار إلى تصديره إلى دول الاتّحاد الأوروبيّ من أجل منافسة الغاز الروسيّ هناك، وهي المعادلة التي ما لبث أن أكَّد الرئيس السوريّ بشّار الأسد على أحد عناصرها لاحقًا عندما قال في وقتٍ سابقٍ من العام الماضي “إنّ سبب الحرب في بلاده يعود إلى رفضها الموافقة على مشروعٍ قطريٍّ لنقل الغاز عبر أراضيها”، علمًا أنّ الارتياب الروسيّ المذكور، سرعان ما تبدَّد وقتذاك، ولو إلى حينٍ، جرّاء نتائج المباحثات التي أجراها الرئيس بوتين مع كلٍّ من الرئيس الإيرانيّ حسن روحاني ومرشد الثورة علي خامنئي خلال زيارته لطهران في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) عام 2015، وتحديدًا قبل يومين فقط من قيام المقاتلات التركيّة بإسقاط قاذفة الـ “سوخوي” الروسيّة فوق الأراضي السوريّة في تلك الخطوة التي فسَّرها المراقبون على الفور بأنّها جاءت للتعبير عن حالةِ إحباطٍ شديدٍ سيطرت على سلوكيّات الرئيس رجب طيّب أردوغان في أنقرة، ولا سيّما أنّ الولايات المتّحدة لم تدَّخر على مدى السنوات الطويلة الماضية أيَّ جهدٍ في مجال العمل على تحويل تركيا إلى “عقدةِ غازٍ عالميّةٍ” من أجل محاربة الغاز الروسيّ، من دون أن يُكتب لها النجاح في تحقيق ذلك لغاية الآن.
الخلفيّة التاريخيّة
ولكي ندرك مدى أهميّة الغاز الطبيعيّ في الحسابات الاستراتيجيّة للدول الكبرى المتنافسةِ في الوقت الراهن بين بعضها البعض، سياسيًّا وعسكريًّا واقتصاديًّا، على طول خارطة العالم وعرضها، لا بدَّ من العودة قليلًا للانطلاق من ذلك اليوم البعيد من عام 1994، عندما أعلنت دول الاتّحاد الأوروبيّ عن موافقتها على التقيُّد والالتزام ببنود “اتّفاقيّة كيوتو” الموقَّعةِ في اليابان قبل ذلك التاريخ بعامين كاملين، والخاصّةِ بالحدِّ من خطر الانبعاثات السامّة الناجمة عن دورة حركتها الصناعيّة اليوميّة، بما يضمن الحدَّ من تفشّي خطر ظاهرة الاحتباس الحراريّ، وبالتالي الحفاظَ على طبقة الأوزون، الأمر الذي ما لبث أن أدّى إلى إضفاءِ قيمةٍ إضافيّةٍ على “الذهب الأزرق”، لتطغى أهمّيّته بشكلٍ تلقائيٍّ على أهمّيّة الحليف التقليديّ لتلك الصناعات، أيْ النفط.
وإذا كان توقيت هذا الإقرار الأوروبيّ قد تزامَن حينذاك مع وصول الزهوّ الأميركيّ إلى ذروته، على إيقاع ما حملته تداعيات تفكُّك الاتّحاد السوفييتيّ من مؤشّراتٍ على خروج موسكو من حلبة النزال مع واشنطن على المسرح الدوليّ، ولو إلى حينٍ، فإنّ الولايات المتّحدة، وعلى خلفيّة إدراكها الكامل لمكامن الغاز الطبيعيّ في كلٍّ من روسيا وإيران، وكذلك في الدول المجاورة لهما، أو الواقعة تحت نفوذهما، سرعان ما شرعت في العمل على استهداف ما تبقّى من نفوذٍ روسيٍّ في العالم عن طريق إشعال كلٍّ من حرب البوسنة في يوغسلافيا (1992 – 1995) وحرب الشيشان الأولى في شمال القوقاز (1994 – 1996)، سعيًا إلى توفير الأرضيّة الأمثل التي تؤهِّلها للتحكُّم بمسارات خطوط أنابيب الغاز من الشمال إلى الجنوب، ومن الشرق إلى الغرب، وذلك بالتزامن مع ترسيم الحدود القطريّة – الإيرانيّة في أعقاب وصول الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني إلى السلطة عام 1995، والبدءِ باستخراج الغاز القطريّ، ومن ثمّ بتسييله لنقله إلى أسواق الطلب الأوروبيّة، أملًا في منافسة الغاز الروسيّ.
من آسيا إلى المتوسّط
وفي أعقاب هاتين الخطوتين الهامّتين، وعلى رغم أنّهما أدّتا إلى تحريك أوكار دبابير الجماعات الإسلاميّة المتطرِّفة ذات النزعات الانفصاليّة الواضحة في كلٍّ من يوغسلافيا السابقة والشيشان، فقد كان لا بدَّ للولايات المتّحدة من أن تتَّخذ المزيد من الإجراءات في أماكنَ أخرى من العالم، إذا ما أرادت أن توفِّر لنفسها شروط النجاح في مجال منافسة الغاز الروسيّ في أوروبا، الأمر الذي وضعها أمام الحاجة إلى دراسة خرائط هذا “الذهب الأزرق” في كلٍّ من كازاخستان وتركمانستان وأذربيجان وإيران ومصر، إضافةً إلى الحقول المكتشَفةِ على ساحل البحر الأبيض المتوسّط بين إسرائيل ولبنان وقبرص، أملًا في توجيه ضربةٍ موجعةٍ لطموحات شركة “غازبروم” الفتيَّة التي كانت قد تأسَّست في ذلك الوقت من عام 1996.
وبالنظر إلى أنّ التقديرات الأميركيّة كانت تشير إلى أنّ بدء الاستثمار في حقول المتوسّط يحتاج إلى سلامٍ دائمٍ في منطقة الشرق الأوسط، وأنّ تحقيق ذلك يستوجب الحدَّ أوّلًا من قدرات محور المقاومة في لبنان، فقد بدأت عمليّة “عناقيد الغضب” الإسرائيليّة في شهر نيسان (أبريل) عام 1996 في إطار مسعىً يهدف إلى إلحاق الهزيمة بـ “حزب الله”، وبالتالي إلى التمهيد لفرض اتّفاقِ سلامٍ مع لبنان، بما يضمن تأمين المناخ الأرضيّ اللازم لإمدادات الغاز المطلوبة.
ولكنّ الفشل الذريع الذي مُنِيت به هذه العمليّة، بحسب رأي العديد من الخبراء، أدّى إلى ظهور نتائجَ عكسيّةٍ، ولا سيّما أنّ الاتّفاق الذي تمّ التوصُّل إليه برعايةٍ أميركيّةٍ بين لبنان وإسرائيل في أعقاب ثمانمئةٍ وثلاثٍ وثمانينَ غارةً جويّةً إسرائيليّةً شُنَّت بين الحادي عشر والخامس والعشرين من ذلك الشهر على أراضي الجنوب اللبنانيّ، قلَب دفَّة الموازين لصالح الحكومة اللبنانيّة، وشرعن المقاومة وسلاحها، وأرغم الدولة العبريّة، للمرّة الأولى في تاريخها، على الالتزام به، إلى أن تمّ تحرير الجنوب نهائيًّا (باستثناء مزارع شبعا المُختَلَف على هويّتها بين لبنان وسوريا وإسرائيل) في الخامس والعشرين من شهر أيّار (مايو) عام 2000، أيْ في نفس العام الذي وصل فيه فلاديمير بوتين إلى الحكم في قصر الكرملين، وذلك من قبيل الصدفة لا أكثر.
عودة القطب الغائب
لا شكّ في أنّ التعديلات التي أدخلتها الإدارة الروسيّة الجديدة وقتذاك على مسارات سياساتها الداخليّة والخارجيّة، ظلَّت تشكِّل حافزًا لسكّان البيت الأبيض للذهاب إلى أقصى الدرجات في تبنّي أكثر الخطط دهاءً من أجل تضييق الخناق على روسيا، والحيلولةِ دون نهوضها واستعادة دورها كقطبٍ فاعلٍ على الساحة الدوليّة من جديد، الأمر الذي ينطبق على إشعال حرب كوسوفو في بدايات عام 1999 وحرب الشيشان الثانية في نهاياته، وكذلك على الثورات الملوَّنة التي دعمها الأميركيّون طيلة سنوات العقد الأوّل من الألفيّة الثالثة في كلٍّ من أوكرانيا وجورجيا وقيرغيزيا، وهي الفترة التي شهدت فيها منطقة الشرق الأوسط أيضًا حرب تمّوز عام 2006 بين إسرائيل و”حزب الله”.
من هنا، يصبح في الإمكان تفهُّم الأسباب التي دفعت روسيا إلى التركيز في لغة تخاطبها مع الشعوب والحكومات العربيّة في غمرة تداعيات فورة “ربيع العرب” على لفت انتباههم إلى أنّ أيديولوجيّة الانفصال التي راح الغرب يسوِّقها باعتبارها موضة العصر، ما هي إلّا البوّابة الجديدة التي تعتمدها “النيوكولونياليّة” لفرض السيطرة على العالم العربيّ، وذلك بهدف استنزاف ثرواته الطبيعيّة التي يعتبرها الغرب المحرِّك الأساسيّ لثورته الصناعيّة.
خرائط الغاز الطبيعيّ
وفي هذا السياق، لا بدَّ من الإشارة أيضًا إلى أنّه إذا كان الترتيب العالميّ للغاز قد ظلّ يتأرجح خلال السنوات الأخيرة من القرن العشرين بين روسيا وتركمانستان وأذربيجان وجورجيا وإيران وقطر، فإنّ الدراسات المختصَّة راحت تتحدَّث منذ بداية الألفيّة الثالثة عن ترتيبٍ جديدٍ يُقرِّه واقع المخزون الاستراتيجيّ الحاليّ، حيث تحتلّ روسيا المرتبة الأولى باحتياطيٍّ يُقدَّر بستِّمئةٍ وثلاثةٍ وأربعينَ تريليونِ قدمٍ مكعَّبٍ، تليها السعوديّة في المرتبة الثانية من خلال احتياطيٍّ يُقدَّر بأربعمئةٍ وستّةٍ وعشرينَ تريليونِ قدمٍ مكعَّبٍ في الربع الخالي، ومئتينِ وسبعةٍ وعشرينَ تريليونِ قدمٍ مكعَّبٍ في حقل “غوار” الكبير شمالَ شرقيّ المملكة، ليأتي غاز البحر الأبيض المتوسّط في المرتبة الثالثة من خلال احتياطيٍّ يُقدَّر بثلاثمئةٍ وخمسةٍ وأربعينَ تريليونِ قدمٍ مكعَّبٍ، إضافةً إلى خمسةِ ملياراتٍ وتسعمئةِ مليونِ برميلٍ من الغازات السائلة، ومليارٍ وسبعمئةِ مليونِ برميلٍ من النفط، ومن ثمّ يأتي في المرتبة الرابعة حزام “زاغروس” على امتداد الخليج العربيّ من إيران إلى العراق، من خلال احتياطيٍّ يُقدَّر بمئتينِ واثنيْ عشر تريليون قدمٍ مكعَّب.
ولعلّ اللافت في هذه الدراسات، هو أنّها أشارت، وللمرّة الأولى، إلى أنّ اكتشاف حقل قارّة في سوريا يمكن أن يوفِّر أكثر من أربعمئةِ ألفِ مترٍ مكعَّبٍ من الغاز يوميًّا، الأمر الذي يحسم مسألة ثراء هذه الدولة، ويؤهِّلها لكي تحتلّ المرتبة الأولى في الترتيب العالميّ للغاز في المستقبل القريب، علاوةً على أنّه يفسِّر في الوقت نفسه سرَّ تكالبِ المجتمع الدوليّ، ومقاولي سياساته الإقليميّين، على سوريا وشعبها وتاريخها وحضارتها وإرثها التاريخيّ والإنسانيّ، بصرف النظر عمّا إذا كان المرء معجَبًا بقيادتها الحاليّة أم لا… وهذه عبرةٌ مؤثِّرةٌ ينبغي على المسؤولين اللبنانيّين الامتثال بها، بكلّ ما تعنيه الكلمة من معنى، لدى التطرُّق إلى معالجة تفاصيل ملفّ الغاز العظيم… وما على الرسول إلّا البلاغ.

(يتبع غدًا: الشرق الأوسط المختلِف)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق