السلايدر الرئيسيشرق أوسط
قراءة لمستقبل الشرق الأوسط: بين عاصفة الـ “سوخوي” وهزّة الـ “إس 300” (3 – 3)
جمال دملج
بيروت – – بعدما كنّا قد استعرضنا خلال اليومين الماضيين أهمّ العوامل السياسيّة والعسكريّة والاقتصاديّة التي ارتكز عليها مبدأ الإعلان عن بدء الحرب الروسيّة على الإرهاب في سوريا اعتبارًا من يوم الثلاثين من شهر أيلول (سبتمبر) عام 2015، تحت عنوانه العريض المتمثِّل في الآفاق المتاحة للدور الذي تلعبه إدارة الرئيس فلاديمير بوتين حاليًّا، عبْر البوّابة السوريّة، في منطقة الشرق الأوسط بأسرها، فإنّ العناوين الفرعيّة ذات الصلة بما يُفترَض أن تلعبَه دولُ هذه المنطقةِ الموبؤةُ بالانقسامات من أدوارٍ في مجال التعاطي والتفاعُل مع التطوُّرات المستجِدّة تباعًا في ضوء ما يحمله إليها هذا الحضور الروسيّ، لا بدَّ من أن تكون العناوين الأهمّ، وخصوصًا إذا انطلقنا من وجوب التسليم يقينًا بواقع الحال الذي لا يزال يُظهر المؤشِّر تلو الآخر، ويومًا بعد يومٍ، على أنّ ما يُسمّى الشرق الأوسط الجديد، أو الشرق الأوسط المختلِف، أصبح على وشك التكوُّن بالفعل، وفقًا لأسسٍ سياسيّةٍ جديدةٍ ومفاهيمَ استراتيجيّةٍ مستحدَثة.
البصمات الإيجابيّة
لا شكّ في أنّ تزامُن إطلاق مسار أستانا التفاوضيّ في العاصمة الكازاخيّة مع إتمام المصالحة الروسيّة – التركيّة من جهةٍ، والتركيّة – الإسرائيليّة من جهةٍ أخرى، كان له بالغ الأثر في رفع منسوب التفاؤل بأنّ إمكانيّة التوصُّل إلى التسوية السياسيّة المطلوبة للأزمة السوريّة باتت متوفِّرةً أكثر من ذي قبل، ولا سيّما أنّ نجاح فكرة إقامة “مناطق خفض التصعيد” برعاية الثلاثيّ الروسيّ – الإيرانيّ – التركيّ، وما ترافَق مع ذلك من تراجعٍ ملحوظٍ في نسبة تأثير دول المحور الأميركيّ – الأوروبيّ – الخليجيّ على مسار الأحداث في سوريا، سرعان ما خلَّف وراءه الكثير من البصمات الإيجابيّة على الكثير من الأزمات المستفحِلة في الدول المجاورة، بما فيها العراق الذي راحت الحرب على الإرهاب فيه تشهد تصويبًا حقيقيًّا قلَّ نظيره قياسًا بالسنوات السابقة منذ زمان انطلاقة أبو مصعب الزرقاوي ولغاية زمان صعود نجم أبو بكر البغدادي، ناهيك عن لبنان الذي كانت الجماعات التكفيريّة الإرهابيّة تتربَّص به، سواءٌ من جهة تخومه الحدوديّة مع سوريا أم من خلال خلاياها الصاحية والنائمة في الداخل، وهي الجماعات التي استفادت إلى حدٍّ كبيرٍ من الفراغ الهائل الذي أحدثته أزمة الشغور الرئاسيّ على مدى قرابة العامين من الزمان في البلاد، قبل أن يُصار إلى طيّ صفحة هذا الشغور نهائيًّا إثر انتخاب العماد ميشال عون رئيسًا للجمهوريّة يوم الحادي والثلاثين من شهر تشرين الأوّل (أكتوبر) عام 2016.
وإذا كان من غير المنصِف القفز في الحالة اللبنانيّة فوق البديهيّة القائلة بأنّ ما ساهم إلى درجةٍ قياسيّةٍ في حماية البلد من أخطار الاحتراق بلهيب صراعات المنطقة يعود أصلًا إلى وجودِ توافُقٍ دوليٍّ وإقليميٍّ بهذا الخصوص، فإنّ الأمانة الأخلاقيّة تستوجب التأكيد على أنّ هذا التوافُق لم يكن ليُقدَّر له الصمود لولا العامل المحلّيّ المتمثِّل بالدور الذي لعبته مؤسّسة الجيش اللبنانيّ وغيرها من الأجهزة الأمنيّة على صعيد تدعيم ركائزه، بدءًا من إجراءاتها الاستباقيّة النوعيّة ضدّ الإرهاب في الداخل وصولًا إلى معركة تحرير الجرود، تمامًا مثلما تستوجب الأمانة الأخلاقيّة التأكيد أيضًا على أنّ مفاعيل الانخراط العسكريّ الروسيّ في الأزمة السوريّة، وفقًا لما تقدَّم ذكره أعلاه، ساهمت بدورها في كبحِ جماحِ رغباتِ جهاتٍ لبنانيّةٍ عديدةٍ في مجال السعي إلى الاصطياد في مياه الإرهابيّين العكرة، وخصوصًا بعدما أدركت هذه الجهات إلى درجة اليقين الكامل أنّ حضور ماءِ موسكو بكثافةٍ على الساحة الشرق أوسطيّة لا بدّ من أن يُبطِل التيمُّم بالتراب الأميركيّ، علاوةً على اقتناعها، ولو متأخِّرًا، بأنّ هذا الحضور مرشّحٌ لطول البقاء، وبأنّه يحمل في سلّته نفطًا وغازًا وقمحًا وسلامًا.
حلّ الدولتين
من هنا، لا بدَّ من التذكير مجدَّدًا بما كنّا قد شهدناه في منتصف عام 2016 من مؤشّراتٍ على أنّ المشروع الروسيّ في المنطقة لا يقتصر على محاربة الإرهاب في سوريا وحسب، بل يستهدف التأسيس لأرضيّةٍ يتمّ الانطلاق منها في اتّجاه التوصّل إلى تسويةٍ شاملةٍ ودائمةٍ للصراع العربيّ – الإسرائيليّ على أساس حلّ الدولتين، وذلك عن طريق إحياء المبادرة التي قدَّمها العاهل السعوديّ الراحل الملك عبد الله بن عبد العزيز أثناء انعقاد قمّة جامعة الدول العربيّة في بيروت عام 2002 بينما كان لا يزال وليًّا للعهد، وبالتالي، إعادة تنشيط الاتّصالات المباشِرة على المسار التفاوضيّ السوريّ – الإسرائيليّ، الأمر الذي ما لبث أن تجلّى مرارًا عام 2016 من خلال قاعدة بيانات الارتصافات المذكورة أعلاه، سواءٌ على خطّ موسكو – أنقرة – تل أبيب أم على خطّ موسكو – أنقرة – طهران، وخصوصًا عندما تطرَّقت المستشارة السياسيّة للرئيس السوريّ السيّدة بثينة شعبان أثناء الاحتفال الذي أقامه اتّحاد الصحافيّين بمناسبة الذكرى السادسة والأربعين لـ “الحركة التصحيحيّة”، وللمرّة الأولى بعد طولِ غيابٍ، إلى شروط تسوية الصراع العربيّ – الإسرائيليّ، قائلةً ما حرفيّته: “كان هناك مبدآن أساسيّان في السياسة السوريّة… محاولة توحيد الجهد العربيّ وأنّ الأمن يجب أن يتحقّق للجميع من فلسطينيّين ولبنانيّين وسوريّين، وأنّ السلام يجب أن يكون عادلًا وشاملًا للجميع، ويجب أن تكون كلّ خطوةٍ مدروسةً وطنيًّا وإقليميًّا ودوليًّا”.
وعلى رغم أنّ المستشارة شعبان ركَّزت في كلمتها وقتذاك على التعاطي بقدْرٍ كبيرٍ من المسؤوليّة مع ما أظهره الرئيس دونالد ترامب أثناء حملته الانتخابيّة من إشاراتٍ إيجابيّةٍ حيال بلادها ومسألة بقاء الرئيس بشّار الأسد على رأس السلطة فيها، معربةً عن استعداد دمشق لفتحِ قنواتِ اتّصالٍ مع واشنطن نظرًا لأنّ “المؤشِّرات على هذا الصعيد جيّدة”، ومؤكِّدةً “حرص سوريا على إقامةِ علاقاتٍ جيّدةٍ مع كلّ دول العالم، على ألّا تُمسّ مصالحها الوطنيّة وثوابتها”، على حدّ تعبيرها، فإنّ دوائرَ روسيّةً قُدِّر لها أن تواكِب مسار إبرة البوصلة الإسرائيليّة – السوريّة منذ تسعينيّات القرن العشرين ولغاية يومنا الراهن سرعان ما تلقَّفت الموقف اللافت حيال إسرائيل، لتُبادر إثر ذلك إلى القول إنّ وزير الخارجيّة وليد المعلّم يدرك أبعاده ودلالاته أكثر من غيره بكثيرٍ، ولا سيّما أنّه كان معنيًّا بهذا الملفّ بشكلٍ مباشِرٍ أثناء عمله بصفةِ سفيرٍ لبلاده في الولايات المتّحدة، أيْ عندما كان منخرطًا في التفاوض، على أساس مرجعيّة مؤتمر مدريد للسلام، مع نظيره الإسرائيليّ إيتامار رابينوفيتش.
عقدة طبريا
ووفقًا للدوائر الروسيّة، فإنّ تلك المفاوضات “كادت تنجح (وقتذاك) في حلحلة عقدة الانسحاب الإسرائيليّ إلى خطّ الرابع من حزيران 1967 كشرطٍ مسبَقٍ لتوقيع اتّفاقِ سلامٍ مع سوريا، ولا سيّما بعدما تركَّز الجهد خلال تلك المرحلة على التوصُّل إلى قناعةٍ مشترَكةٍ بأن يُصار إلى تنفيذ الانسحاب على مراحلَ عدّةٍ، بالشكل الذي تتزامُن فيه كلّ مرحلةٍ مع جرعةٍ سوريّةٍ سخيّةٍ في مجال التطبيع، من أجل المساعدة على حشد الدعم للتنازلات في إسرائيل”، الأمر الذي يُعتبَر أساسيًّا جدًّا في حسابات دوائر صنع القرار في تل أبيب، نظرًا “لأنّ القانون الإسرائيليّ ينصّ على وجوبِ توافُرِ غالبيّةِ واحدٍ وستّينَ صوتًا في الكنيست من أجل التنازل عن أراضٍ في مرتفعات الجولان، علاوةً على أنّ رئيس الوزراء قد يقرّر وجوب إجراءِ استفتاءٍ للموافقة على انسحابٍ كبيرٍ وشرعنته”. ولكنّ المسألة التي بقيت عالقةً قبل اغتيال رئيس الوزراء إسحاق رابين عام 1995، تمثَّلت في إصرار الدولة العبريّة على انتزاع اعتراف سوريا بالسيادة الإسرائيليّة على بحيرة طبريا في بحر الجليل، بينما كانت سوريا تصرّ على حقّها في استخدام البحيرة، بحسب الحدود التي يرسمها خطّ الرابع من حزيران، الأمر الذي سرعان ما طُويت صفحته لاحقًا، في أعقاب وصول بنيامين نتنياهو إلى رئاسة الوزراء عام 1996.
بين الـ “سوخوي” والـ “إس 300”
على هذا الأساس، وانطلاقًا من كافّة المستجِدّات والمؤشِّرات التي تدلّ في الوقت الراهن إلى أنّ سوريا اليوم تختلف كلّيًّا عمّا كانت عليه قبل ثلاثة عقودٍ من الزمان، تمامًا مثلما يختلف نتنياهو اليوم عمّا كان عليه قبل الفترة ذاتها، ومثلما يختلف شعار “قوّة لبنان في ضُعفه” البائد عن معادلة “الردع الاستراتيجيّ” الراهنة التي أرسى “حزب الله” ركائزها حجرًا فوق حجرٍ على طول الامتداد الفاصل ما بين الأراضي الإيرانيّة وما بين الجنوب اللبنانيّ، ومثلما تختلف روسيا فلاديمير بوتين القويّة عن روسيا بوريس يلتسين الضعيفة، فإنّ السؤال الذي يطرح نفسه في ظلّ المتغيِّرات التي شهدتها الساحة السوريّة خلال السنوات الثلاث الماضية ما بين عاصفة الـ “سوخوي” وما بين هزّة الـ “إس 300” هو: إلى أيِّ مدى يا ترى يمكن لسقف التفاؤل أن يرتفع في مجال المراهنة على أنّ القبطان الروسيّ سيكون قادرًا بالفعل على الإبحار بالسفينة الشرق أوسطيّة إلى برّ الأمان؟
سؤالٌ، وإنْ كانت الإجابة عنه قد ازدادت صعوبةً وتعقيدًا بعدما خسر العالم، من أقصاه إلى أقصاه، الرهان على أنّ إدارة الرئيس دونالد ترامب ستكون مختلفةً عن سابقاتها في مجال انتهاج سياسات الكيل بمكيالين واحتراف مهنة المعايير المزدوَجة، ولكنّ أكثر المقاربات جدّيّةً ورزانةً حول مستقبل الأوضاع في منطقة الشرق الأوسط دلَّت في الآونة الأخيرة إلى أنّ لا أحد على الإطلاق من الأطراف الوازنة في معادلات الحرب والسلام يرغب في خوضِ حروبٍ جديدةٍ بأيِّ شكلٍ من الأشكال… وحسبي أنّ البيت في القصيد يكمُن هنا، والخير دائمًا من وراء القصد.
- قراءة لمستقبل الشرق الأوسط: بين عاصفة الـ “سوخوي” وهزّة الـ “إس 300” (1 – 3)
- قراءة لمستقبل الشرق الأوسط: بين عاصفة الـ “سوخوي” وهزّة الـ “إس 300” (2 – 3)