أحمد الحناكي
واحد ممن يطلق عليهم مفكر في بلادنا، دأب بين كل محاضرة له وأخرى على مهاجمة الحضارة العربية ماضياً وحاضراً، بل ويطنب بانبهار بالحضارة الغربية موبخاً الجميع، مشدداً على أننا يجب أن ننبهر ونقتنع بأفضليتهم وبعجزنا، ومن ثم نحاول بعدها أن نقتدي بهم لعلنا نستطيع بعدها أن ننتج بدلاً من أن نستهلك. وقال في مقابلة له قديمة – وكرر كلامه هذا في ما بعد – في إحدى الصحف: “إننا ندين أنفسنا حين نقول بفضل الروّاد العظام كابن رشد وابن الهيثم وابن سينا والفارابي والرازي والخوارزمي على أوروبا وهم بعيدون عنها، إذ كيف عجزوا عن إيقاظ المجتمعات التي عاشوا فيها وخاطبوها من داخلها وألحّوا عليها؟ وأن هؤلاء الأفذاذ كانوا في الأساس تلامذة للفكر اليوناني، وأنه لا يحق لنا أن نفخر بهم لأن مجتمعاتنا لم تستجب لهم لأنها اعتبرت أفكارهم مستوردة من الخارج، وهم إلى ذلك كانوا خارج نسقنا الثقافي السائد، وكانوا وما زالوا غير معترف بهم في ثقافتنا، بل أحرقنا كتبهم وضيّقنا عليهم وحذّرنا منهم، وأن تأثيرهم جاء عكسياً، إذ حفّز خصومهم على مضاعفة المتاريس وتأصيل كراهية العقل والخوف من الفكر والتحذير الدائم من الفلسفة، حتى أصبح هذا سمة أساسية في ثقافتنا وكانت النتيجة أننا أصبحنا نشازاً بين مجتمعات الأرض، ولا يشاركنا في هذا الوضع المأساوي سوى بعض المجتمعات الإفريقية”.
يتجاهل هذا المفكر أن هؤلاء الرواد العظام – كما وصفهم – هم من مجتمعاتنا ونشأوا فيها. أما كونهم استفادوا من الفكر اليوناني، فلا يعيبهم، فالفكر لا يتأتى إلا بالتراكم المعرفي وبتلاقح الثقافات. فهم أخذوا من اليونانيون القدامى، وأوروبا لاحقاً أخذت منهم وهكذا. صحيح أنهم طوردوا وعذبوا وحُرِقت كتبهم، لكن يجب ألا ينسى مفكرنا أن من حاربهم – آنذاك – كان مجموعة معينة في زمن معين، والآن لا توجد هذه المجموعة وتغير الزمن، وبفضل الله الأمهات العربيات لم يجدبن والظروف الآن أصبحت مواتية أكثر من أي وقت مضى، إذ توحدت مصادر المعلومات والتعليم.
الأهم من ذلك، هو أن الكنيسة أو السلطات الغربية مارست تجاه علمائها وفلاسفتها في القرون الوسطى ما هو أبشع مما تعرض له نظرائهم العرب، فغاليليو غاليلي تراجع عن أفكاره وكشوفاته العلمية لينجو بروحه بعد ما تعرض قبله المفكر الايطالي جيوردانو برونو الذي قطعوا لسانه وألقوه بالنار ثم حرقوه على وتد خشبي بسبب إيمانه بوجود أنظمة شمسية أخرى، غير أن تراجع غاليليو لم يمنعهم من سجنه في منزله حتى مات.
لم يكن هذان الاثنان (غاليلي وبرونو) هما الوحيدان، بل هناك مجموعة أخرى لاقت من التعذيب الوحشي ما يندي له الجبين، فالباحث الأسباني مايكل سيرفينتوس حُرِق حياً هو الآخر على وتد خشبي في مدينة جني، وحرقت معه كل مؤلفاته ولم ينظر إلى إنجازاته في حقل الطب، كونه أول أوروبي يصف بدقة الدورة الدموية بين القلب والرئتين.
من جانب آخر، شارك الغرب (كما وصفه صاحبنا المفكر المنبهر) في تدمير نهضتنا العربية من خلال غزواته واستعماره، فالمغول أثناء اجتياحهم بغداد، دمروا مكتبة “بيت الحكمة” التي كانت تضم أكثر من 300 ألف كتاب، كما دمروا 36 مكتبة في بغداد تضم مئات الآلاف من الكتب. كما ذكرت المستشرقة الألمانية زيجريد هونكه في كتابها “شمس العرب تسطع على الغرب”، أنه تم حرق مكتبة “دار العلم” في القاهرة، والتي تقدر مقتنياتها بمليونين ومئتي ألف من المجلدات. (يتبع)
@abofares1