محمد الرميحي
في نحو أسبوع واحد، انفجرت قضيتان في الولايات المتحدة؛ الأولى قضية السفير البريطاني في واشنطن، ثم قضية النائبات الأربع من الحزب الديمقراطي ذوات الأصول المشرقية في مجلس النواب الأميركي. والطرف المقابل في القضيتين هو السيد دونالد ترمب. وهما جزء من سلسلة الأزمات المتجددة للرئيس الأميركي؛ فأولاهما أزمة دولية ومع أقرب حليف للولايات المتحدة، والثانية داخلية تجاه صلب التكوين الأميركي المتآلف – المختلف من مهاجرين، ما دفع مجلس النواب لإدانة الرئيس بالعنصرية.
ذلك غيض من فيض من الأحداث التي يمكن أن نلاحظ منها عدم انتظام سياسي معيقاً ومقلقاً للبعض في حده الأدنى.
الرئيس ترمب له معارك أخرى خارجية مع الحلفاء والأعداء، وهو ربما يسير على عكس القول الشعبي الأميركي الذائع: «قبل أن تدخل معركة عليك حساب التكاليف»! يبدو أن التكاليف السياسية بعيدة المدى هي آخر ما يفكر فيه ساكن البيت الأبيض!
ليس من السهل لأي متابع لتغريدات السيد ترمب وقراراته أن يدعي أنه يعرف «الثيمة» الترمبية التي يسير عليها الرئيس، فهي ثيمة سياسية وشخصية غير قابلة للتفسير أو حتى التوقع، قبل سبر عدد من الوقائع الحالية والتاريخية. تَسرَّع بعضُهم وقال إنها ثيمة رجل الأعمال، ولكن حتى «رجل الأعمال» هذا يمكن أن تُفسَّر تصرفاتُه بعقلانية ويمكن التنبؤ بكثير منها.
إن الأكثر قابلية إلى التفسير المعقول أمران؛ الأول أن القوة الأميركية تفقد «زخمها» في العالم، وتتخلى تدريجياً وبشكل غامض عن كلٍّ من القيم الديمقراطية العميقة التي نشأت عليها واستطاعت تسويقها على مدى قرن وأكثر. والأمر الثاني أنها تتخلى عن الدفاع عن منظومة الاستقرار العالمي. يمكن معرفة الثيمة الترمبية من التبصر في معادلة «عدم الكفاءة في استخدام القوة الخشنة في العقود الأخيرة، والنقص الواضح في استخدام القوة الناعمة». وترمب هو التجسيد الأكثر وضوحاً لها، ولكنه لم يصنعها وحده، فقد تكونت تلك المعادلة لأكثر من عقد نتيجة التحديات العالمية. تحديات اليوم تتفوق على ما سبقها.
أمام الولايات المتحدة أربعة على الأقل من التحديات الكبرى: أولها اطراد نمو الصين كقوة اقتصادية عظمى، والتي سرعان ما سوف تتحول إلى سياسية، وثانيها حركات العنف ذات المتكأ الإسلامي، من «بوكو حرام» إلى «داعش» مروراً بإيران وأفغانستان وحتى تركيا ومشابهاتها، وثالثها السباق في الفضاء الخارجي، والرابع معارك الفضاء الإلكتروني المتزايد الخطورة. عدا الإعلان عن «حرب الإرهاب» والضغط الاقتصادي على الصين محدودَي الأثر، لا يبدو أن إدارة ترمب لديها وضوح في كيفية مواجهة التحديات الأخرى. الأساس في عدم القدرة على مواجهة هذه التحديات أن الولايات المتحدة منذ فترة ليست قصيرة، غير قادرة أو ربما غير راغبة في استخدام «القوة الخشنة»، وهذه الحقيقة ليست خاصة بالإدارة الحالية، فقد عانت من قبلها إدارة أوباما بسبب «متلازمة حرب أفغانستان والعراق»، وأيضاً بسبب التراث السياسي الأميركي. لكن هذه المشكلة تهون نسبياً إذا قورنت بالمشكلة الكبرى، وهي أنها لم تعد تحسن استخدام أو إدارة «القوة الناعمة» التي كانت تسمى في وقت ما «القيم الأميركية العميقة»؛ فحادثتا السفير من جهة والنائبات من جهة أخرى، تنبئان بعدم تسامح وعدم قبول للآخر، وهما من بين عناصر أخرى تفقدان جاذبية القيم الأميركية الناعمة.
تحدث ثيودور روزفلت – حينما كان نائب الرئيس وقتها في سبتمبر (أيلول) 1901 (مطلع القرن العشرين) – إلى حشد من مؤيديه قائلاً: «تحدث بلين واحمل عصاً غليظة»، وبعد ذلك الخطاب بأيام قُتل الرئيس ويليام ماكينلي، وأصبح روزفلت رئيساً للولايات المتحدة، وبدأ في تحقيق ذلك الشعار على الأرض، عبر تكوين القوة العسكرية الأميركية، وحمل روزفلت شعار «أميركا أمة عظيمة». فالشعار الذي يتبناه ترمب ليس جديداً، الفرق بين ترمب وروزفلت أن شعار الأخير تحول إلى منهاج عمل سياسي في الداخل والخارج، أدى باختصار إلى أن يكون القرن العشرون «قرناً أميركياً»، ومن بدايته حتى نهايته تدخلت أميركا عسكرياً في أميركا الجنوبية، ثم خاضت حروباً كبرى.
قرن الهيمنة كان مكلفاً من حيث الأرواح والمال، فقد فقدت أميركا سبعمائة ألف قتيل وسقط مليون جريح تقريباً في حروب كثيرة، منها حربان عالميتان واثنتان منهكتان: فيتنام وأفغانستان. تمخض كل ذلك عن فكرة سياسية تبلورت في عهد رونالد ريغان، مفادها: «عَظِّمْ من القوة العسكرية والتقنية بشكل طاغٍ، حتى تصل إلى درجة تنعدم عندها الحاجة إلى استخدام القوة». إن «العصا الغليظة» أو «حرب النجوم» كما عرفت شعبياً في تلك الحقبة، قد آتت أكُلها بانهيار الاتحاد السوفياتي، ولكنها لم تنهِ الحروب، خصوصاً في فضاء تنمو فيه قوى اقتصادية هائلة (الصين والهند) وأخرى غير منضبطة، وعلى الرغم من زيادة الإنفاق العسكري الذي أمر به ترمب فلا يبدو أن هناك إرادة في استخدامه حتى معنوياً!
على الأقل في العقد الأخير (خلال عهدي أوباما وترمب) واجهت أميركا المعضلة نفسها التي واجهتها عند البدء، فقد هاجر أسلاف الأميركيين من أوروبا المشتعلة بالظلم والحروب، هرباً من الاستبداد والمذابح، ولكنهم تعلموا بسرعة أن النأي بالنفس لا يعني عالماً مستقراً، فاشتركوا من جديد في حروب أوروبا، أو في حروب لحسابهم، ولكن بعضها – خصوصاً فيتنام وأفغانستان وأخيراً العراق – أحرق أصابع الداعين إلى الحرب، فتكوّن ما سمته بعض الدراسات الأميركية «سندروم الحرب»، أي الابتعاد ما أمكن عن خوض الحروب.
إن عدم استخدام القوة الخشنة يعني تراجع هيبة الولايات المتحدة، كما أن تراجعها عن «القيم العظيمة» أفقدها القوة الناعمة، وما بقي هو شيء مما يمكن أن يسمى «الاستبداد الديمقراطي». صحيح أنه تناقضٌ في المفهوم، ولكنه معبر من خلال تلك الشعبوية التي تريد أن تعيد أميركا عظيمة من جديد، إلا أن ثمن العظمة هذه المرة هي الشعبوية، لا الانتصار في حرب، ولا الدفاع عن قيم إنسانية نبيلة.
إن جزءاً من المعضلة التي تواجه عالمنا وبقية العالم، أن السلم العالمي يحتاج إلى من يحميه، إما بالحرب وإما بالسلم المسلح، فإما أن يكون هناك نظام عالمي قادر على بسط السلام وتعظيم احترام قواعد اللعبة الأممية المتمثلة في القانون الدولي القائم على احترام الدولة الوطنية، وإما الفوضى. هذا هو ما يقلق في «كلام» السيد ترمب، فالقيادة تأخذ أشكالاً مختلفة، ولكل قيادة خصوصيتها، والقيادة الأميركية ليست استثناءً، ولكن القيادة دائماً تحتاج إلى «القوة العسكرية» لتكون مكوناً رئيساً منها.
تردُّد ترمب وإدارته وتوهانهما المشهودان دليلان من أدلة أخرى على غياب «الإرادة». إن إعلان الانسحاب من شمال سوريا وتناقض الموقف مع كوريا الشمالية – والذي كلف الإدارة ربما خسارة أفضل وزير دفاع في التاريخ المعاصر (بقي المنصب شاغراً سبعة أشهر) – يكشفان رؤية مضللة لدى الإدارة، تُفرق بين «الحفاظ على المصالح الأميركية» كما تفهمها الإدارة و«الحفاظ على السلم العالمي» كما يرجوه العالم. حينما يتبين للإدارة أن الحفاظ على السلم العالمي جزء لا يتجزأ من المصالح الأميركية، وأنهما متشابكان، حينها فقط تتحول الجعجعة إلى طحين!
آخر الكلام: سمعت من بان كي مون، الأمين العام السابق للأمم المتحدة، هذه العبارة: «العقوبات على الدول لا تحقق أهدافاً سياسية، يكفي أن تخترقها دولة واحدة وازنة كي تصبح ثقباً أسود كبيراً في جدار العقوبات»، والشواهد تقول إن الرجل محق!
ذلك غيض من فيض من الأحداث التي يمكن أن نلاحظ منها عدم انتظام سياسي معيقاً ومقلقاً للبعض في حده الأدنى.
الرئيس ترمب له معارك أخرى خارجية مع الحلفاء والأعداء، وهو ربما يسير على عكس القول الشعبي الأميركي الذائع: «قبل أن تدخل معركة عليك حساب التكاليف»! يبدو أن التكاليف السياسية بعيدة المدى هي آخر ما يفكر فيه ساكن البيت الأبيض!
ليس من السهل لأي متابع لتغريدات السيد ترمب وقراراته أن يدعي أنه يعرف «الثيمة» الترمبية التي يسير عليها الرئيس، فهي ثيمة سياسية وشخصية غير قابلة للتفسير أو حتى التوقع، قبل سبر عدد من الوقائع الحالية والتاريخية. تَسرَّع بعضُهم وقال إنها ثيمة رجل الأعمال، ولكن حتى «رجل الأعمال» هذا يمكن أن تُفسَّر تصرفاتُه بعقلانية ويمكن التنبؤ بكثير منها.
إن الأكثر قابلية إلى التفسير المعقول أمران؛ الأول أن القوة الأميركية تفقد «زخمها» في العالم، وتتخلى تدريجياً وبشكل غامض عن كلٍّ من القيم الديمقراطية العميقة التي نشأت عليها واستطاعت تسويقها على مدى قرن وأكثر. والأمر الثاني أنها تتخلى عن الدفاع عن منظومة الاستقرار العالمي. يمكن معرفة الثيمة الترمبية من التبصر في معادلة «عدم الكفاءة في استخدام القوة الخشنة في العقود الأخيرة، والنقص الواضح في استخدام القوة الناعمة». وترمب هو التجسيد الأكثر وضوحاً لها، ولكنه لم يصنعها وحده، فقد تكونت تلك المعادلة لأكثر من عقد نتيجة التحديات العالمية. تحديات اليوم تتفوق على ما سبقها.
أمام الولايات المتحدة أربعة على الأقل من التحديات الكبرى: أولها اطراد نمو الصين كقوة اقتصادية عظمى، والتي سرعان ما سوف تتحول إلى سياسية، وثانيها حركات العنف ذات المتكأ الإسلامي، من «بوكو حرام» إلى «داعش» مروراً بإيران وأفغانستان وحتى تركيا ومشابهاتها، وثالثها السباق في الفضاء الخارجي، والرابع معارك الفضاء الإلكتروني المتزايد الخطورة. عدا الإعلان عن «حرب الإرهاب» والضغط الاقتصادي على الصين محدودَي الأثر، لا يبدو أن إدارة ترمب لديها وضوح في كيفية مواجهة التحديات الأخرى. الأساس في عدم القدرة على مواجهة هذه التحديات أن الولايات المتحدة منذ فترة ليست قصيرة، غير قادرة أو ربما غير راغبة في استخدام «القوة الخشنة»، وهذه الحقيقة ليست خاصة بالإدارة الحالية، فقد عانت من قبلها إدارة أوباما بسبب «متلازمة حرب أفغانستان والعراق»، وأيضاً بسبب التراث السياسي الأميركي. لكن هذه المشكلة تهون نسبياً إذا قورنت بالمشكلة الكبرى، وهي أنها لم تعد تحسن استخدام أو إدارة «القوة الناعمة» التي كانت تسمى في وقت ما «القيم الأميركية العميقة»؛ فحادثتا السفير من جهة والنائبات من جهة أخرى، تنبئان بعدم تسامح وعدم قبول للآخر، وهما من بين عناصر أخرى تفقدان جاذبية القيم الأميركية الناعمة.
تحدث ثيودور روزفلت – حينما كان نائب الرئيس وقتها في سبتمبر (أيلول) 1901 (مطلع القرن العشرين) – إلى حشد من مؤيديه قائلاً: «تحدث بلين واحمل عصاً غليظة»، وبعد ذلك الخطاب بأيام قُتل الرئيس ويليام ماكينلي، وأصبح روزفلت رئيساً للولايات المتحدة، وبدأ في تحقيق ذلك الشعار على الأرض، عبر تكوين القوة العسكرية الأميركية، وحمل روزفلت شعار «أميركا أمة عظيمة». فالشعار الذي يتبناه ترمب ليس جديداً، الفرق بين ترمب وروزفلت أن شعار الأخير تحول إلى منهاج عمل سياسي في الداخل والخارج، أدى باختصار إلى أن يكون القرن العشرون «قرناً أميركياً»، ومن بدايته حتى نهايته تدخلت أميركا عسكرياً في أميركا الجنوبية، ثم خاضت حروباً كبرى.
قرن الهيمنة كان مكلفاً من حيث الأرواح والمال، فقد فقدت أميركا سبعمائة ألف قتيل وسقط مليون جريح تقريباً في حروب كثيرة، منها حربان عالميتان واثنتان منهكتان: فيتنام وأفغانستان. تمخض كل ذلك عن فكرة سياسية تبلورت في عهد رونالد ريغان، مفادها: «عَظِّمْ من القوة العسكرية والتقنية بشكل طاغٍ، حتى تصل إلى درجة تنعدم عندها الحاجة إلى استخدام القوة». إن «العصا الغليظة» أو «حرب النجوم» كما عرفت شعبياً في تلك الحقبة، قد آتت أكُلها بانهيار الاتحاد السوفياتي، ولكنها لم تنهِ الحروب، خصوصاً في فضاء تنمو فيه قوى اقتصادية هائلة (الصين والهند) وأخرى غير منضبطة، وعلى الرغم من زيادة الإنفاق العسكري الذي أمر به ترمب فلا يبدو أن هناك إرادة في استخدامه حتى معنوياً!
على الأقل في العقد الأخير (خلال عهدي أوباما وترمب) واجهت أميركا المعضلة نفسها التي واجهتها عند البدء، فقد هاجر أسلاف الأميركيين من أوروبا المشتعلة بالظلم والحروب، هرباً من الاستبداد والمذابح، ولكنهم تعلموا بسرعة أن النأي بالنفس لا يعني عالماً مستقراً، فاشتركوا من جديد في حروب أوروبا، أو في حروب لحسابهم، ولكن بعضها – خصوصاً فيتنام وأفغانستان وأخيراً العراق – أحرق أصابع الداعين إلى الحرب، فتكوّن ما سمته بعض الدراسات الأميركية «سندروم الحرب»، أي الابتعاد ما أمكن عن خوض الحروب.
إن عدم استخدام القوة الخشنة يعني تراجع هيبة الولايات المتحدة، كما أن تراجعها عن «القيم العظيمة» أفقدها القوة الناعمة، وما بقي هو شيء مما يمكن أن يسمى «الاستبداد الديمقراطي». صحيح أنه تناقضٌ في المفهوم، ولكنه معبر من خلال تلك الشعبوية التي تريد أن تعيد أميركا عظيمة من جديد، إلا أن ثمن العظمة هذه المرة هي الشعبوية، لا الانتصار في حرب، ولا الدفاع عن قيم إنسانية نبيلة.
إن جزءاً من المعضلة التي تواجه عالمنا وبقية العالم، أن السلم العالمي يحتاج إلى من يحميه، إما بالحرب وإما بالسلم المسلح، فإما أن يكون هناك نظام عالمي قادر على بسط السلام وتعظيم احترام قواعد اللعبة الأممية المتمثلة في القانون الدولي القائم على احترام الدولة الوطنية، وإما الفوضى. هذا هو ما يقلق في «كلام» السيد ترمب، فالقيادة تأخذ أشكالاً مختلفة، ولكل قيادة خصوصيتها، والقيادة الأميركية ليست استثناءً، ولكن القيادة دائماً تحتاج إلى «القوة العسكرية» لتكون مكوناً رئيساً منها.
تردُّد ترمب وإدارته وتوهانهما المشهودان دليلان من أدلة أخرى على غياب «الإرادة». إن إعلان الانسحاب من شمال سوريا وتناقض الموقف مع كوريا الشمالية – والذي كلف الإدارة ربما خسارة أفضل وزير دفاع في التاريخ المعاصر (بقي المنصب شاغراً سبعة أشهر) – يكشفان رؤية مضللة لدى الإدارة، تُفرق بين «الحفاظ على المصالح الأميركية» كما تفهمها الإدارة و«الحفاظ على السلم العالمي» كما يرجوه العالم. حينما يتبين للإدارة أن الحفاظ على السلم العالمي جزء لا يتجزأ من المصالح الأميركية، وأنهما متشابكان، حينها فقط تتحول الجعجعة إلى طحين!
آخر الكلام: سمعت من بان كي مون، الأمين العام السابق للأمم المتحدة، هذه العبارة: «العقوبات على الدول لا تحقق أهدافاً سياسية، يكفي أن تخترقها دولة واحدة وازنة كي تصبح ثقباً أسود كبيراً في جدار العقوبات»، والشواهد تقول إن الرجل محق!