سمير عطا الله
لم يُرزق رياض الصلح، أول رئيس وزراء استقلالي في لبنان، بأبناء، بل بخمس بنات عُرفن آنذاك باسم «كريمات الزعيم الخالد»، علياء ومنى ولمياء وبهيجة وليلى. كان يفترض أن ترث علياء العمل السياسي بعد اغتيال والدها في عمّان. إلا أن الزواج أبعدها عن ذلك إلى حين. ومن ثم دخلت العمل السياسي بالانضمام إلى جبهة المعارضة للرئيس فؤاد شهاب، من خلال انتسابها إلى «النهار»، حيث كان مقالها الأسبوعي «يهزّ البلد»، حسب التعبير اللبناني. منذ ذلك الوقت، أصبحنا في دائرة «الست عليّا»، ومحضرها، ومجلسها. وكانت تحيط بالعالم وأخباره وأجوائه أكثر من أي صحافي آخر. وبعد اندلاع الحرب، استقرّت في باريس، حيث تصرّفت كأميرة من أميرات الأدب والسياسة والفكر. وكانت لها مواقفها، الصلبة غالباً، تعاند بابتسامة فيها من الحزم أكثر مما فيها من الاستحسان. وإلى جانب ذلك كله، كان لها شغف بالثقافة واللغات والأدب. ولم تكن تفوّت معرضاً من معارض الكتب بكل مكان، وكان مشهداً مألوفاً أن تراها تتنقّل في الأجنحة ومعها حمّالان ينقلان الحصاد.
جمعتني بـ«الست عليّا» مودّة دامت حتى غيابها المحزن، وكما مع جميع أصدقائها، كانت تسأل دائماً عن أخبار الأولاد والعائلة، ولا تترك مناسبة تمرّ من دون ذوقها الرفيع وأخلاقها العالية. وعندما أصدرت كتابي «قافلة الحبر»، قرّرت أن المسألة تحتاج إلى احتفال. وكان ذلك بالنسبة إليَّ أهمّ احتفال بكتاب لي من بين نحو عشرين كتاباً. في جملة الحرص العائلي بين «الست عليّا» وبيننا، أنني أخبرتها ذات يوم، بأنني أنوي بناء منزل في قريتي، لأن تلك كانت وصية أبي، الذي اشترى الأرض ولم يستطع البناء عليها. قالت لي، هل هيّأت المكان؟ قلت نعم. قالت، هل هيّأت مكاناً للعريشة؟ (الدالية). فوجئت بالسؤال لأن العريشة لم تكن في همومي، وفوجئت أكثر أن تطرح السؤال سيدة بيروتية لا علاقة لها بالقرى والجبال. ولما أجبتها بأنني لم أفكر في الأمر بعد، قالت: «وهل يستقيم منزل في قرية من دون عريشة أمامه، تتفيّأ ظلّها وتتمتّع بمنظر عناقيدها الذهبية وتسمع حفيف أوراقها؟».
لست في حاجة إلى مناسبات لكي أتذكّر علياء الصلح، وذلك المستوى شديد الارتقاء من الصداقة. أعيد الآن قراءة رواية «زوربا» للإغريقي العظيم نيكوس كازانتزاكيس. التحف الجميلة تقرأ كل مرّة، وكأنها المرّة الأولى. في هذا المشهد، نرى البحّار زوربا يحاور معلّمه البريطاني، وقد جلسا تحت عريشة في جزيرة كريت: «أدار زوربا عينيه، وفتح ذراعيه على مداهما وكأنه يريد أن يعانق العالم وهتف مذهولاً: ما الذي يحدث أيها الرئيس؟ ما هذه السعادة، ما هذه الحياة أيها الرئيس؟ قل لي بشرفك ما هذا الذي يتدلّى فوق رؤوسنا، أهو عنب أم ملائكة، أهو فيء أم سعادة؟ لقد تحوّل كل شيء إلى جماد».
جمعتني بـ«الست عليّا» مودّة دامت حتى غيابها المحزن، وكما مع جميع أصدقائها، كانت تسأل دائماً عن أخبار الأولاد والعائلة، ولا تترك مناسبة تمرّ من دون ذوقها الرفيع وأخلاقها العالية. وعندما أصدرت كتابي «قافلة الحبر»، قرّرت أن المسألة تحتاج إلى احتفال. وكان ذلك بالنسبة إليَّ أهمّ احتفال بكتاب لي من بين نحو عشرين كتاباً. في جملة الحرص العائلي بين «الست عليّا» وبيننا، أنني أخبرتها ذات يوم، بأنني أنوي بناء منزل في قريتي، لأن تلك كانت وصية أبي، الذي اشترى الأرض ولم يستطع البناء عليها. قالت لي، هل هيّأت المكان؟ قلت نعم. قالت، هل هيّأت مكاناً للعريشة؟ (الدالية). فوجئت بالسؤال لأن العريشة لم تكن في همومي، وفوجئت أكثر أن تطرح السؤال سيدة بيروتية لا علاقة لها بالقرى والجبال. ولما أجبتها بأنني لم أفكر في الأمر بعد، قالت: «وهل يستقيم منزل في قرية من دون عريشة أمامه، تتفيّأ ظلّها وتتمتّع بمنظر عناقيدها الذهبية وتسمع حفيف أوراقها؟».
لست في حاجة إلى مناسبات لكي أتذكّر علياء الصلح، وذلك المستوى شديد الارتقاء من الصداقة. أعيد الآن قراءة رواية «زوربا» للإغريقي العظيم نيكوس كازانتزاكيس. التحف الجميلة تقرأ كل مرّة، وكأنها المرّة الأولى. في هذا المشهد، نرى البحّار زوربا يحاور معلّمه البريطاني، وقد جلسا تحت عريشة في جزيرة كريت: «أدار زوربا عينيه، وفتح ذراعيه على مداهما وكأنه يريد أن يعانق العالم وهتف مذهولاً: ما الذي يحدث أيها الرئيس؟ ما هذه السعادة، ما هذه الحياة أيها الرئيس؟ قل لي بشرفك ما هذا الذي يتدلّى فوق رؤوسنا، أهو عنب أم ملائكة، أهو فيء أم سعادة؟ لقد تحوّل كل شيء إلى جماد».