وليد شقير
بينما يجري التحضير لاتفاق ينفذ على مراحل من أجل إقامة منطقة آمنة في شمال شرق سورية، بتفاهم أميركي تركي، يستحضر هذا المصطلح تاريخ المناطق الآمنة في المنطقة، خلال السنوات الماضية. ولا يمكن للمرء إلا أن يسجل بأن إقامة المنطقة الآمنة في هذه الدولة أو تلك مهد لحروب جديدة ولم يحفظ الأمن فيها أو على حدودها.
ولئن أخذت المناطق الآمنة تسميات مختلفة، تارة بأنها منطقة حظر جوي وأخرى على أنها اتفاق هدنة، أو فك اشتباك، أو منطقة عازلة، فإن التسمية اختلفت وفق الوظيفة التي أعطيت لقيام تلك المنطقة المحظر فيها أشكال النزاع العسكري على جهة بعينها.
مهدت منطقة الحظر الجوي في كردستان العراق في تسعينات القرن الماضي لحرب العراق في 2003 . وقبلها مهد اتفاق وقف النار وقيام مناطق عازلة على الحدود إثر حرب 1967 بين إسرائيل والعرب لحرب 1973. وقيام الشريط الحدودي المحتل من قبل إسرائيل عام 1998 كمنطقة عازلة عادت فتولتها قوات حفظ السلام الدولية تحت ولاية القرار الدولي الرقم 425 ، بهدف حفظ أمن الدولة العبرية حيال الهجمات الفلسطينية من جنوب لبنان. وكلها محطات مهدت لحرب 1982 والاجتياح الإسرائيلي. وبعدها جرى توسيع مهمات القوات الدولية جغرافيا وعديدا وعتادا لا سيما بعد عدوان 2006 وفقا للقرار الدولي الرقم 1701 . وما زالت المنطقة الممتدة من الحدود بين لبنان وفلسطين المحتلة وصولا إلى نهر الليطاني تعتبر منطقة آمنة متجددة بغطاء دولي، تضمن أمن إسرائيل من جهة وأمن الجنوب اللبناني من جهة ثانية. لكن “المنطقة الآمنة” الجنوبية في لبنان، باتت امتدادا لمنطقة آمنة أو عازلة مفترضة يجري الصراع حولها في جنوب سورية من القنيطرة إلى درعا، ما زال قيامها يخضع لأخذ ورد بين القوى الكبرى المعنية بالصراع الدائر في بلاد الشام.
ومثلما تسعى تركيا إلى اقتطاع المنطقة الآمنة في الشمال، تسعى إسرائيل إلى فرض منطقة عازلة مع حدودها في الجنوب السوري، بينها وبين إيران التي تعمل لتثبيت أقدامها فيها، مقابل الطلب الإسرائيلي- الأميركي من موسكو إبعاد الإيرانيين وحلفائهم مسافة تتراوح بين 50 و100 كيلومترا لضمان أمن الحدود الإسرائيلية. وبينما يخضع قيام المنطقة الآمنة شمالا لمنطق الصراع بين أنقرة والقوات الكردية ويتسبب بتصاعد الخلاف الأميركي التركي، فإن قيام المنطقة العازلة في الجنوب السوري دونه حسابات تتعدى الميدان السوري، وتتصل بتصاعد الصراع الأميركي الإيراني وحرب واشنطن الاقتصادية على طهران لإضعافها وجلبها إلى طاولة التفاوض. في الحالتين تستمر المواجهات السياسية والعسكرية بين مختلف الفرقاء المتورطين في الحرب السورية. والتصعيد العسكري في محافظة إدلب يبلغ مستويات غير مسبوقة في إطار هذا الصراع على الشمال، بينما تواصل إسرائيل في الجنوب السوري توجيه ضرباتها لأذرع إيران بالقصف الجوي أو الصاروخي الانتقائي لمواقع الإيرانيين وحلفائهم، مقرونا بغض نظر روسي، بعدما بلغ النفوذ الإيراني في دمشق وسائر المحافظات درجة تصعب العودة عنها، في مزاحمة الدور الروسي.
أصبحت المنطقة العازلة أو الآمنة لحفظ أمن إسرائيل في الجنوب السوري تقوم على صناعة الفوضى التي تجعل من المستحيل السيطرة عليها، أو تمكين روسيا من أن تسحب الإيرانيين منها. ولذلك يلجأ الإسرائيليون إلى قصف مواقعهم فيها وفي محيط دمشق القريب، بدلا من الاتكال على ضغوط تؤدي إلى انكفاء الجانب الإيراني منها.
وحدها “المنطقة الآمنة” في جنوب لبنان تنعم بشبه إجماع دولي على بقائها بعيدة من التوتر أو التصعيد، على رغم طموح “حزب الله” وإيران بأن يتم ربطها بالجبهات الأخرى في أي نزاع إيراني – أميركي أو مع إسرائيل.
فهي منطقة آمنة قابلة للاهتزاز إذا أرادت إسرائيل وأميركا، أو نتيجة قدرة الحزب على تحريكها عسكريا بسبب إمكاناته فيها، مثلما حصل في شأن الأنفاق التي تبين أنه حفرها وتتخطى الحدود نحو الأراضي الفلسطينية. وهي منطقة هادئة لأن الحزب مطمئن إلى قدرته على إشعالها عندما يتطلب الأمر ذلك، لكن أولويته في الظروف الراهنة لا تتعلق بدوره فيها، بقدر ما تتعلق بقدرته على التأثير على السلطة المركزية وعلى قرارها، وعلى القوى السياسية التي تتكون منها هذه السلطة، لحسابات متصلة بتجيير قرار هذه السلطة على الصعيد الإقليمي لمصلحة إيران، ما ينتج تصاعدا في الصراع الداخلي، وصولا إلى بلوغه خطر الصراع الأهلي كما حصل أخيرا.
يؤسس قيام المناطق الآمنة الحدودية أو محاولة إنشائها لحروب أو مواجهات ولو بعد حين. وفي لبنان يمهد ثبات التهدئة جنوبا لصراع على القرار في بيروت، تتداخل فيه العوامل الطائفية والمذهبية مع العوامل السياسية الخارجية.