الحبيب الأسود
لا يستطيع جانب كبير من التونسيين الانفصال عن ثقافة الغنيمة بما تمثله كأحد أسس ثقافتهم العربية الإسلامية التي تقدّس الوجاهة وتحتقر العمل، لذلك تميل إلى عقلية الاستحواذ بدءا من الصراع القبلي، إلى الصراع من داخل الدولة أو من حولها، ومن الطبيعي أن تكون اللغة عماد هذه العقلية انطلاقا من الشعر الذي كان أداة الدعاية الأولى، وصولا إلى الخطاب السياسي والإعلامي الذي يميّز هذه المرحلة، والذي لا ينفصل بدوره عن منطق الغنيمة السائد، عندما يصبح الحكم مسألة حياة أو موت لدى قوى تركب صهوة الديمقراطية ولكن بعقلية من يحاول إحكام قبضته على الدولة والمجتمع.
فمسألة الانتقال الديمقراطي تكاد تكون وهما في عقول الرومانسيين، بينما هي في الحقيقة فرصة لبعض الأطراف للوصول تدريجيا إلى السلطة والبقاء على رأسها، وإقصاء المختلف بالاعتماد على أدوات عدة، أبرزها التجاذبات السياسية والحزبية والمال الفاسد واللوبيات المتنفذة والإعلام الموجه والجيوش الإلكترونية المتخصصة والخطاب الديني المسيّس والعلاقات الخارجية المعقدة والارتباط بالمحاور ومراكز النفوذ الإقليمية والدولية.
والواقع أن تونس تعيش اليوم بالذات حالة لم تعشها منذ الإطاحة بالنظام السابق في يناير 2011، حيث تخوض انتخابات رئاسية مبكرة وتشريعية اعتيادية، من بين المنافسين عليها من هم في الحكم، وخاصة حركة “تحيا تونس” بزعامة رئيس الحكومة يوسف الشاهد، وحركة النهضة التي يتزعمها راشد الغنوشي، بينما انتظمت انتخابات المجلس التأسيسي في أكتوبر 2011 تحت ظل حكومة محايدة، وهي حكومة الباجي قائد السبسي آنذاك، وانتخابات 2014 تحت مظلة حكومة كفاءات وطنية هي حكومة مهدي جمعة التي لم كانت خارج المنافسة على الحكم.
هذه المرة هناك رئيس حكومة يطمح إلى رئاسة البلاد وإلى الحصول على مركز مهم في البرلمان من خلال حزبه الذي تشكّل حديثا، وهناك إسلاميون ينافسون لأول مرة على كرسي الرئاسة في قصر قرطاج من خلال مرشحهم عبدالفتاح مورو، وهناك رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي الذي يترشح لأول مرة للانتخابات التشريعية بهدف الوصول إلى رئاسة البرلمان، وتطمح حركته إلى تسجيل صدارة التشريعيات لتدخل في مشاورات تفرز اختيار أحد قادتها لرئاسة الحكومة، وبالتي وضع اليد على الرئاسات الثلاث، وهو ما يبدو بعيد المنال على حركة أثبتت الانتخابات البلدية عام 2018 أن خزانها الانتخابي فقد المتعاطفين، ولم يبق إلا على حوالي 500 ألف ناخب من المنخرطين والمناصرين العقائديين والمرتبطين بمصالح ما بعد 14 يناير 2011 داخل مفاصل الدولة، والمشدودين إلى النهضة بحبال الجهوية والمناطقية والعشائرية.
هناك قوى أخرى تنافس على الحكم وتطمح إلى السيطرة عليه، وهناك ماكنات تتحرك في كل الاتجاهات، وأموال طائلة تدور عبر زواريب من الصعب رصدها، وهناك خطاب متشنج لا يخلو من الحقد والكراهية وهتك الأعراض والتلاعب بالمعطيات الشخصية والإساءة المتعمدة للأشخاص والجهات والأفكار، ومن الاتهامات المتبادلة وتزوير المواقف وإذكاء الفتنة. وهناك مخزون استثنائي من العنف المتأجج في الصدور وعلى الألسن وعبر وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، والذي يدور بشكل أو بآخر حول منطق الغنيمة، ويوحي بعدم القبول بروح التنافس المؤدية إلى تداول سلمي على السلطة.
من الطبيعي أن يسعى من هم في السلطة إلى البقاء على رأسها، وكذلك من الطبيعي أن تطمح المعارضة إلى الفوز بمقاليد الحكم، ولكن المشكلة اليوم في شراسة المعركة الانتخابية وأدواتها، خصوصا وأن هناك قناعة راسخة لدى الجميع بأن نتائج رئاسيات 15 سبتمبر ستلقي بظلالها على تشريعيات 6 أكتوبر، وأن من يفوز بالرئاسة قد يكون الأقرب إلى الدفع بحزبه إلى تصدر البرلمان هذا إذا كان متحزبا، وقد يكون فوزه مفيدا لداعميه من الأحزاب والشخصيات السياسية، إن كان مستقلا.
ما يزيد في الرفع من مستويات التوتر النتائج المتواترة عن استطلاعات الرأي اليومية غير المعلنة والتي تنظمها مؤسسات عدة لفائدة أحزاب أو حملات انتخابية، وهي في أغلبها تصب في اتجاهات لا تسعد من يوجدون حاليا في صدارة المشهد، الأمر الذي يجعل الكثيرين يحلمون بقلب دراماتيكي للموازين، حتى أن أحد المحللين السياسيين صرخ على إحدى شاشات التلفزيون، داعيا إلى تخصيص حراسة مشددة على المرشحين للرئاسة، خصوصا وأن القانون الانتخابي ينص على أنه في حال توفي أحد المرشحين في الدورة الأولى أو أحد المرشحين في دورة الإعادة يعاد فتح باب الترشح وتحديد المواعيد الانتخابية من جديد في أجل لا يتجاوز 45 يوما وفي هذه الحالة يقع اختزال الآجال الواردة في القانون بحيث يتم اختزال آجال البت في صحة الترشحات كما يتم اختزال آجال إجراءات الطعن.
إن الانتخابات في تونس تبدو مسألة حياة أو موت بالنسبة لعدد من المتنافسين، ما يزيد من حدة الصراع الذي لم يعد خافيا أن هيئة الانتخابات تتعامل معه بكثير من الحكمة، لكن لا شك أن هناك الكثير من المنعطفات في السباق الانتخابي باتت تثير اهتمام الرأي العام الإقليمي والدولي، وتحتاج إلى المعالجة الدقيقة من الداخل حتى لا يختل ميزان الديمقراطية الناشئة، وتعود عجلة المسار الانتقالي إلى الوراء، فقط لأن البعض لا يزال يصر على أن هدفه هو وضع اليد على الدولة والمجتمع كغنيمة بحسب ما تفسره ثقافة لا تزال راسخة في أذهان الكثيرين ممن يدعون الديمقراطية ويضمرون نقيضها، ويزعمون احترام القانون ويسعون للإخلال به كلما كانت الفرصة سانحة لذلك.