*د. مهيب صالحة
يناقش بعض المتثاقفين ” عودة الفلسفة ” على أن الفلسفة في الثقافة العربية قائمة، موجودة، ويقدمون خطاباً سياسياً ذاتوياً يقحمون فيه الفلسفة الموجودة فقط في مخيلتهم دونما تكليف أنفسهم عناء الغوص في قضية عودة الفلسفة إلى الثقافة العربية بعد تغييبها ردحاً طويلاً من الزمن، وسبر كنهها. لقد غُيبت الفلسفة فعلياً عن الثقافة العربية ـ باعتبارها صناعة فكر وليس مجرد دراسات فلسفية لمنتجات فلسفية موجودة ـ بداية من ” تهافت الفلاسفة ” لأبي حامد الغزالي حجة الإسلام 450 / 505 هجرية واستبدالها بعلم الكلام أو الفقه، وانتهاء بحرق كتب ابن رشد 520 / 595 هجرية صاحب ” تهافت التهافت ” الذي رد به على تهافت الفلاسفة. وربما يكون حرق دار الحكمة التي أنشأها الحاكم بأمر الله الفاطمي 395 هجرية وتضم 1.6 مليون مخطوط من ضمنها 6500 في الرياضيات و18 ألف في الفلسفة بداية مسار عداوة الثقافة العربية ـ الإسلامية للفلسفة. وللمزيد من التوضيح يمكن تقسيم علاقة الثقافة العربية ـ الإسلامية بالفلسفة إلى ثلاث سيرورات :
السيرورة الأولى، المثاقفة، وتبدأ منذ نهايات القرن السادس الميلادي، أي في المدة التي أسس فيها كسرى أنو شروان مدرسة جُنْدَيْسابور للطب والحكمة في بلاد فارس وامتزجت فيها الثقافات الإغريقية والسريانية والفارسية والمسيحية، وتستمر حتى سنة 81 هجرية ؛ سنة الفتوحات الإسلامية، واكتشاف العوالم والثقافات والعلوم الأخرى.
السيرورة الثانية، الترجمة والنقل، وتبدأ منذ سنة 81 هجرية، حتى النصف الأول من القرن الثالث الهجري؛ التاريخ المفترض لفلسفة أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الكنديّ.
السيرورة الثالثة، الفلسفة، وتبدأ مع الكنديّ منذ النصف الأول من القرن الثالث الهجريّ، حتى وفاة آخر الفلاسفة ابن خلدون ( 808هـ).
وبعد ذلك يتقهقر التفكير الفلسفيّ لغاية العصر الحديث إذ تبدأ فيه مرحلة استئناف لسيرورة الترجمة والنقل، لذلك لا يمكن تسميتها سيرورة في مسار تطور الفلسفة المنقطع، لأن الفلسفة العربية ـ الإسلامية منذ التأسيس مع الكنديّ، ونضج التأسيس بعد الكندي وحتى ابن خلدون أنتجت نظريات وأفكار جديدة، في حين أنها بعد الإنقطاع اعتمدت فقط على النقل والترجمة للفلسفات الحديثة واجترار الفلسفات القديمة نتيجة ظروف تاريخية صعبة أحاطت بالمجتمع العربي وأثرت على إنتاجية ثقافته.
من سوء حظ المعرفة عموماً، وعودة الفلسفة إلى الحياة على وجه الخصوص، انتشار ظاهرة النقل في العالم الافتراضي الذي بات الوسيلة الأهم في تشكل الوعي والتبادل الثقافي، الفردي والجمعي، ربما لأن هذا العالم لا تحكمه بعد قوانين تصون حقوق الملكية الفكرية من جهة، ولأن وسائله مشرعة في جميع الاتجاهات بلا بوصلة من جهة أخرى. وإن يكُ هذا السبب الرئيس إلا أن إنتشار هذه الظاهرة السيئة مرده أصلاً إلى حلول منظومة قيم نفعية محل منظومة القيم الأخلاقية التي كانت قيمة الأمانة واحدة من أهمها، وبغيابها أصبح الفساد بكل تلاوينه وفي كل المجالات مستحباً لدى جمهور واسع من الناس ومن المثقفين بل غدا ” شطارة ” يتباهى بها الفرد، والأخطر الجماعة، لأنها تحقق له / لهم أكبر منفعة كلية دون النظر إلى مصلحة الآخر التي يفترض أن تحميها حقوق الملكية الفكرية في حالة فساد الفكر والثقافة. وحتى في العالم الواقعي حدث ولا حرج عن حالات النقل في الأطروحات والأبحاث الأكاديمية والفنون والكتب والمقالات والدراسات الصحفية، والتي صارت تعبر عن غيبوبة الابداع والابتكار وتردي التعليم وهبوط الذائقة الفنية.. وفي المقلب الآخر يعد تقديم النقل على العقل في كل ما يتعلق بالنصوص الدينية التي يزيد عمرها عن ألف عام، وأنتجتها ظروف مغايرة تماماً، عقبة كأداء في طريق عودة الفلسفة إلى حيوات الأمة.
إن غياب القوانين الرادعة لفساد الفكر أو الثقافة لا يجب أن تلغي مبدأ أمانة النقل وتحت أية ذرائع حتى لا تضاف الذرائعية إلى النفعية في علاقات المجتمع الثقافية وغير الثقافية، لأن فلسفة تقوم على النفعية ـ الذرائعية مع غياب القانون والأخلاق هي سلاح دمار شامل بيد لا يوجهها عقل تقود إلى خراب العقل الجمعي الذي بدوره لا يهدم المجتمع بمعول الجهل فقط إنما يؤسس لمجتمع آخر دوني مبني على منظومات قيمية غير أخلاقية تنسد أمامه آفاق الخروج من وحول التخلف وآفاته، ويتحول هذا المجتمع إلى عبء شديد الوطأة على كاهل الإنسانية تشطبه من اهتماماتها، ويصير مرتعاً خصباً للمصالح النفعية ـ الذرائعية للدول والتجمعات الدولية.
قد يدعو هذا إلى الاستهجان خاصة عند أولئك الذين يعتقدون أنه تافه ولا يستحق هذه العلاقة الجدلية بين النقل والعقل والأخلاق، لكن في الواقع ما يدفع لإثارته أمران، أحدهما هو للتذكير بأن الفلسفة العربية الإسلامية نقلت في الماضي الفلسفة الإغريقية وعلومها بإبداع وابتكار مؤسسين على منظومة قيمية أخلاقية نتج عنها فكر عظيم ومساهمة جليلة في العلوم. والثاني غرام العقل العربي المأزوم بوصف هذه الحالة ـ النتيجة دائماً “بالمؤامرة الخارجية” لتبرير وضعية الهزال المجتمعي العام، متجاهلاً مقدماتها الجوهرية التي كنهها العلاقة الجدلية بين النقل والعقل والأخلاق في مبتدئها ومنتهاها.
إن النقل مَلْغاة العقل، وأمانة النقل مَدْعاة الأخلاق، ولكي تبدآ الأمة بداية جديدة بآفاق رحبة لاستعادة الفلسفة لابد من أن تلتزم العقل والأخلاق سواء في النقل أو في الإبداع والابتكار والتجديد، وسواء على أجنحة العالم الإفتراضي أو في ربوع العالم الواقعي.
إن الفلسفة هي سؤال عن أي شيء في كل شيء وعلى وجه الخصوص في اليقينيات التي قد يظنها العقل البشري حقائق ثابتة، في الطبيعيات والورائيات، في المعقول واللامعقول، في الأخلاق والجمال، الاقتصاد والاجتماع، في السياسة والنظم، في الفكر والمعرفة، في التاريخ واستقراء المستقبل. فالإنسان يولد فيلسوفاً، لايعي تساؤلاته الغريزية البدائية. إنه يتعامل مع ما يتلقاه من إجابات عن أسئلته بالفطرة، فثدي أمه مصدر البقاء الذي يمده بالغذاء وصدرها بالحنان وصريخه بداية وعيه لذاته الفلسفية التي تتشكل تراكمياً مع كل نمو في عقله الفلسفي، والبيئة المجتمعية هي التي تحدد ماهية القطيعة أو السيروة الفلسفية لديه. إنها العقل الثقافي الجمعي، الذي طالما هو حبيس اليقينيات، ورهين الاستبداد السياسي والديني والفكري، فإن الأمة ستبقى مثل طفل رضيع، بلا عقل فلسفي، تحركه غرائزه وانفعالاته. ولأن الفلسفة هي نتاج الشك وإعمال العقل، والدين هو نتاج اليقين والايمان بما لا يدعو للشك، فقد انتصرت الأفهام الدينية فيما سمي الفقه وعلم الكلام على العلوم العقلية فلا بقيت مذاك فلسفة ولا بقي علم وكل ما بقي في الأمة الكلام فحسب، وهو ما شتت الأمة فرقاً ومذاهب تتنازعها الأهواء وحوادث ماضوية أكل عليها الدهر وشرب. كما لم يعد التنوع والاختلاف المجتمعيين اللذين انتجتهما الفتوحات الإسلامية، كونهما سمتان جوهريتان للوجود، عاملا قوة في تطور الأمة إنما صارا عاملي ضعف وهوان مكنا العوامل الخارجية من النفاذ إلى النسيج الاجتماعي وإلى تكوينات الوعي الجمعي وفعل ما يلزم لإفشال أية محاولة للنهوض من جديد.
إن تغييب الفلسفة عن الثقافة العربية جعلها مستهلكة للثقافات الأخرى في جميع النواحي وعاجزة عن إنتاج فلسفة أو إعادة إنتاج ذاتها الفلسفية المنتجة للنظريات والأفكار الجديدة المستخرجة من لدن الواقع العربي وتعالج إشكالياته التي تسببت بحالة الاستعصاء الحضاري التاريخي في صيرورة تطوره.
في ضوء ما تقدم، يعتبر الحديث عن وجود فلسفة في أي مجتمع عربي معاصر هو نوع من الهرطقة الكلامية ليس لها معنى بل تدل على جهل مزدوج، من ناحية جهل بالفلسفة ذاتها وجهل بتاريخها. ومن ناحية أخرى تركيب فلسفات حديثة أنتجت، زمكانياً، من خارج المجتمع العربي وتحميلها، سياسياً، على واقعه المختلف والمتخلف. وفي هذا السياق يتوجب البدء في سياق عودة الفلسفة بأربعة أفعال ايجابية :
ـ الفعل الأول، الشك باليقينيات والمقدسات والمسلمات وكل ما ترسخ في الذهنية الجمعية على أنه ثابت من ثوابت الأمة يُحّرم مجرد التفكير بالظن بها. وتستوجب الإشارة في هذا الصدد إلى أن الإسلام مذ انفصل عن الفلسفة توارى وجهه الحضاري خلف وجوه يفترض أنها غريبة عنه كالتخلف ونبذ الآخر والإرهاب وأولوية الدينوي على الدنيوي وأولوية النقل على العقل عكس منطوق الآية الكريمة ” اليوم أكملت لكم دينكم ” ـ سورة المائدة 3، بما يعني إعمال العقل بعد توقف الوحي عن النزول، وإعمال العقل يعني تطوير الأفهام الدينية والمعرفية عند كل منعطف تاريخي إذا كانت تعوق التغير والتطور في الواقع بجواهره واشكالاته لأن القراءات الخطأ للواقع تسوق بالضرورة اجابات خاطئة عن تساؤلاته. وفهم السؤال نصف الاجابة عنه، مثلما أن نصف الحقيقة يزيفها. ويصبح الاجتهاد لا الاجترار دينامو تطور الفلسفة والفكر عموماً.
ـ والفعل الثاني، القطع مع الماضي بما يعني تركه وشأنه أي عدم استحضار مشكلاته وحوادثه إلى الحاضر حتى يصير مع الوقت فقط مادة درسية معرفية في الأكاديميات المتخصصة وليس في عقول الناس المعاصرين وهواجسهم ومصائرهم ومفردات حياتهم. وفي عصر تسارع التغيير والعولمة المنفلتة فإن دورة حياة الماضي صارت قصيرة أو أقصر من ذي قبل والعودة إليها معرفياً وإنتاجياً لا معنى لها سوى التخلف عن التغيير. ففي الحاضر دائماً يوجد عقل جمعي يتفوق على العقل الجمعي للماضي، وأدوات تفكير وشغل أكثر تطوراً، فلم العودة لماض أقل وعياً وإنتاجاً من الحاضر. يجادل البعض بأن الماضي لا يمكن القطع معه، معرفياً، لأن المعرفة حالة تراكمية، ولكن المعرفة في الوقت نفسه زمكانية، وطالما هي كذلك إذن لا يمكن أن تكون صالحة في كل زمان ومكان، كلاً أو جزءاً. إذا كلياً يصبح القطع معها ضرورة. وإذا جزئياً يعني أن أخذ المفيد منها، أو الصالح، سيكون انتقائياً، وطالما لا سبيل آخر للإفادة من الصالح غير الانتقائية فإن ازدواجية المعايير، بالضرورة تنفي الانتقائية، لأنه من غير الجائز أن تسمح لنفسك ما لا تسمح به لغيرك. فمن يسمح لنفسه الانتقاء من الماضي ما يراه هو صالحاً لجلبه إلى الحاضر عليه أن يقبل ما يستجره الآخر من الماضي وهو صالح من وجهة نظره… وهكذا ستقود الانتقائية بالمجمل إلى أن يبقى الحاضر مسكوناً بالماضي. عندئذِِ نعود إلى جوهر المسألة أن الماضي ماضياً والحاضر حاضراً والمستقبل مستقبلاً، وقطع الحاضر عن الماضي والمستقبل ممكن، معرفياً، وممكن زمكانياً. وعند هذا الحد من القطيعة يمكن التأكيد على أن الأفكار العظيمة لا تموت إنما تتطور مع كل خطوة نحو الحياة، وفي الوقت ذاته يتلاشى الموت مع كل خطوة في مسار التطور.
بالعودة إلى مبررات من يدعون بعدم إمكانية القطع مع الماضي، نلاحظ أن الغالبية ينتمون إلى الأيديولوجيات الدينية والماركسية والقومية. وفي الوقت ذاته هم أنفسهم يستحضرون الماضي، معرفياً كل من منابعه، وعملانياً كل من تجربته. وفي المجمل يشير فشل التجربة إلى فشل أسسها النظرية ـ المعرفية، وبالتالي من العبث نبشها من الماضي واستحضارها إلى الحاضر ما لم تخضع للنقد والمراجعة والتطوير وعندئذِِ تنتمي إلى الحاضر وليس إلى الماضي… إن أية فكرة أو نظرية أو فلسفة لا تحمل في رحمها بذور نفيها، أو نقيضها لأن النقيض لا يظهر إلا بوجود نقيضه، تصبح عقيمة وتتحول من وعي إلى قداسة ترى المتغير بمنظار ثابت.
ـ والفعل الإيجابي الثالث هو فك الارتباط بين السياسي والديني عبر كسر منظومة الاستبداد، وإطلاق حرية التفكير والتعبير. إن الدين لا سياسة له لأن ديدنه الثابت، والسياسة لا دين لها لأن ديدنها المتغير، ولا يجتمع الثابت والمتغير إلا في ذهنية الصدام والفوضى. وعليه فإن زواج الدين والسياسة زواج مصلحة وعقد قرانهما باطل أخلاقياً ومدنياً وحضارياً لأنه يخصب الإرهاب الفكري، ويمنع الفلسفة من أن تعود إلى الحياة.
ـ كون الحامل المجتمعي للفلسفة هو الأمة لذا فإن الفعل الايجابي الرابع لعودة الفلسفة إلى الحياة أن تكون شعبوية لا نخبوية، عمومية لا أكاديمية فحسب، يتمرنها تلاميذ المدارس بمناهج تعليمية تقوي ملكة التساؤل وتعلم لغة الواقع في تفسير متغيراته ومعطياته، وفي الوقت ذاته تستجد بمستجداته.
على هذا الأساس ثمة خمس قضايا يجب العمل عليها مع عودة الفلسفة إلى حياة الأمة: الاصلاح الديني، الدولة الحديثة، المجتمع المدني، التقانة وروح العصر، والاقتصاد وبناء الإنسان المعاصر. والعمل في هذه القضايا الخمس لا يبدأ من الصفر إنما يستفيد مما بلغته البشرية فيها مع مراعاة كل خصوصية على حده بالاستناد إلى مخزونها الثقافي والفلسفي ومواردها المميزة وتجربتها الواقعية في التغيير والاصلاح. إن أية انطلاقة تسارعية، جملة أو بالقطاعي، لإعادة الفلسفة إلى الحياة في أمة تتميز دولها، منفردة ومجتمعة، ببصمة جيواجتماعية شديدة الهشاشة، تحتاج إلى ورشة عمل مجتمعية ـ مؤسسية دائمة وآلية حوار تفسح المجال لأوسع مشاركة من أفراد المجتمع ونخبه لأن قضايا الأمة المعاصرة وطرق التعامل معها قد فضحت خفايا المجتمع التقليدي ومشاكله وعجزه عن مواجهة أية تحديات تواجهه، ووقوعه لقمة سائغة للإرهاب والظلامية والتفكير الماضوي، وتغليب المنطق الخرافي في رؤية العالم والأمور والأشياء من حوله. كما عرت سوءات الدولة الاستبدادية وانحيازها وعدم قدرتها على لعب دور الضامن الحيادي في النزاعات الداخلية، وعجزها عن تحديث مجتمعها ليواكب روح العصر. وفي الوقت ذاته فإن عجز الأمة عن معالجة هذه القضايا يظهر الحاجة الملحة إلى تنويرها وعصرنتها، وتطوير العقل الجمعي واستعادة حيويته المفقودة لبناء وعي جمعي مختلف ومغاير لأن العقل ينتج الفكر والفكر ينتج الوعي، والوعي الجمعي ينتج قوة مادية هائلة تنتج دينامية مجتمعية تعكس الفكر ووعيه الجمعي. ويصبح الجدل السبيل الوحيد إلى التنوير والحداثة، وهو يمر حتماً عبر نقد السائد والمألوف وعبر نقض الثابت والمقدس.
وطالما لا يُوقف السقوط في الظلام سوى الصعود إلى النور فإنه من المتوقع أن تطلق عودة الفلسفة إلى الحياة حركات تنوير وحداثة مجتمعية تدفع بالأمة وأقطارها نحو تعددية لامركزية حداثوية علمانية ديمقراطية تضمن حق المواطنة لجميع أفرادها، والحرية والعدالة الاجتماعية والتقدم العلمي والتقاني والمعرفي، وتعزيز الوعي الفلسفي بأهمية الانتماء للعروبة وللهويات الوطنية في آن.
إن انتماء وطنيات الأمة للعروبة لا يمكن أن يكون مجرد موضة، أو أنه يتعارض معها ومع خصوصياتها. فالموضة توجد للباس والأحذية وقصات الشعر والمراهم والمساحيق وأقنعة الوجوه والعقول… أما أن يصبح الانتماء موضة فهذا يعكس حالة نفسية اجتماعية مصابة بمرض عضال، فعندما تأسست الدولة الوطنية بعيد الاستقلال تفشت موضة القومية العربية كرد فعل على حالة التشرذم العربي لمواجهة الأخطار الخارجية، وحسم الصراع على شكل الدولة القطْرية بين دولة وطنية ديمقراطية ودولة استبدادية شمولية، ولكن مع أي خضة وطنية أو عربية ترتفع وتيرة موضة جديدة في الذهنية الرسمية والشعبية القطْرية تحل محل موضة سبقتها، فعندما قاطعت الدول العربية السادات بعد اتفاقية كامب ديفيد مع اسرائيل انتشرت في مصر موضة الفرعنة. كما كان معمر القذافي إذا غضب من العرب يشلح ثوبه العربي ويرتدي الثوب الأفريقي، وهو الذي أودع جمال عبد الناصر القومية العربية بين يديه من بعده حينما خاطب الجماهير العربية قائلاً: أترككم مع الأخ معمر القذافي أمين القومية العربية من بعدي…
واليوم نشهد ارتفاع وتيرة موضة السرينة بسبب مواقف بعض الدولة العربية تجاه ما يجري في سورية.. إن العروبة ليست قميص عثمان يتنازعه القوميون إذا فاض عليهم، ويخلعونه متى ضاق لمجرد انفكاك العرب أو بعضهم، وقتياً، عنهم، أو عن مشاريعهم، أو عن طموحاتهم السياسية وأهوائهم الأيديولوجية متى يبدلون وجهتها حسب اتجاه أشرعة مراكبهم…
العروبة ليست قميصاً يرتديه القومجي متى شاء لستر عورته أو يخلعه ليبرز ذكوريته.. فالعروبة ثقافة ووعي وانتماء، زمان ومكان، هوية لا فكاك عنها.. فهل ينسلخ الجسم عن جلده؟؟ ربما!!! لكن عندئذ سيتجلى القبح في أبشع صوره.
ينبري المُوضويون لإثبات فرعونية مصر لا عروبتها وافريقية ليبيا لا عروبتها وسيريانية سورية لا عروبتها.. بالعودة إلى جذور اللهجات العامية ولون البشرة وموضة الثياب ونوعية وجبات الغداء.. متجاهلين كون العروبة ثقافة ولغة وتراثاً امتزجت عبر العصور، وجدانياً، بكل ثقافات وتراث شعوب المنطقة ولم تناصبها العداء، وأن أي خلاف أو خضة وطنية لا يفسدان مودة الانتماء للعروبة.
ورسالة التنوير والحداثة التي تكشف عنها عودة الفلسفة تتلخص في الآتي:
أولاً، كحقل فكري معرفي في مواجهة الاستبداد السياسي والديني والإرهاب والظلامية والامتثال للماضي والخضوع لتصوراته الرجعية في النظر إلى العالم، ومواجهة الجمود الفكري والأيديولوجي والتخلف المعرفي.
ثانياً، كحقل حداثوي للاشتباك مع تحديات التحرر والتقدم والتنمية المستدامة وفك الارتباط بالتبعية لإعادة الاعتبار لإعمال العقل الفلسفي في نشر الوعي عبر ثقافة التنوير والحداثة في مختلف جوانب الحياة.
ثالثاً، توفير البيئة المجتمعية المواتية من مؤسسات وحريات وحقوق وسيادة القانون لتغيير نمطية التفكير والسلوك السائدة، وصون الحريات والحقوق الإنسانية لإذكاء روح العلم والبحث العلمي والتجديد والإبداع في التفكير والتعبير وتقدم الجوانب المختلفة للمجتمع.
رابعاً، الحوار باعتباره وسيلة وحيدة للإجابة عن الأسئلة التي يطرحها المجتمع في سياق تطوره وتقدمه، وكيفية وضعه على سكة التنوير والحداثة باعتبارهما غاية ووسيلة في آن، من خلالهما، تعي مؤسسات إنتاج العقل الفلسفي دورها التاريخي في تمجيد العقل، في إذكاء جذوته لا إخمادها، ويصيران، التنوير والحداثة المحمولان على أجنحة الفلسفة الخفاقة، حالة مجتمعية، تهبط إلى المجتمع وتتغلغل في خصوصياته وتتفاعل معها ولا تكون حالة نخبوية تتعالى عليه وترطن بلغة غير لغته.
وتتلخص أهداف التنوير والحداثة الفكرية والثقافية والفلسفية والعلمية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية فيما يلي :
١ ـ نشر فكر تنويري حداثوي يتسلح بأدوات التحليل والتركيب والنقد لتحرير الفكر والعقل الجمعي من الأوهام التي تكبله والتحرر من أية سلطة معرفية تعمل على كبح جماحه وتعطيله عن تحفيز الفكر وإثارة السؤال، انطلاقاً من أن النزعة العقلانية تجسد التقدم والتحرر الفكري والاجتماعي والاقتصادي والسياسي.
٢ ـ إثارة القضايا والمشكلات المتعلقة بالتقدم العلمي والتقاني واحتياجاته ايماناً بقدرة العقل البشري على التطور والتغيير والتقدم نحو الأفضل للسيطرة على قوى الطبيعة وتسخيرها لمصلحة المجتمع. وتعزيز السلوك الإنتاجي، والاقلاع عن السلوك الاستهلاكي المقلد، وتحفيز الاكتشاف والاختراع والإبداع والتميز، والعناية بالموارد البشرية الذكية والموهوبة والمبدعة وتأمين فرص وشروط بقائها في أوطانها.
٣ ـ القطع مع الماضي أي عدم ترحيل مشاكل وقضايا الماضي إلى الحاضر وبالعكس، والنظر إلى الحاضر والمستقبل نظرة علمية واقعية في تطبيق التحولات البنيوية والاجتماعية والفلسفية والثقافية والسياسية انطلاقاً من روح العصر وموجباتها.
٤ ـ ترسيخ الحريات الفردية والعامة وحقوق الإنسان العالمية في الاستخدام العلني للعقل الإنساني وفي جميع الأمور.
٥ ـ الإدارة السلمية للتغيير ونبذ العنف عبر تحالفات وطنية واسعة تهدف إلى إحلال مجتمع ديمقراطي أكثر حرية وعدالة.
٦ ـ الاعتراف بأن الشعب هو مصدر كل السلطات، وهو أيضاً المصدر الوحيد للتشريع في ظل دولة الحق والقانون.
٧ ـ تعزيز منظومة القيم الأخلاقية الإنسانية القائمة على حب الخير والتعاون والسلام والتسامح واحترام وقبول الآخر ونبذ أي شكل من أشكال التطرف والعصبية والطائفية.
٨ ـ جعل العقل المصدر الوحيد للمعرفة وليس المقدس سواء القديم منه أو الحديث، ووضع جميع الأشياء والأمور في مجال الشك وعلى محك العقل للكشف عن أسباب نشوئها المنطقية وتبدلاتها الواقعية وسيروراتها التاريخية.
٩ ـ اعتبار الفرد الخلية الأساسية والشريك الأساس في بناء الوطن والدولة، حيث لا قداسة لسلطة سياسية أو مقولات أو ممارسات فكل ذلك يحتمل النقد والتغيير، ولا سلطة على الفرد غير سلطة القانون.
١٠ ـ تنبثق الرؤية السياسية لحركات التنوير والحداثة من فلسفتها السياسية للواقع الآني وللمرحلة القادمة بما ينسجم مع تطلعات الشعوب إلى السلم الأهلي والتغيير الديمقراطي وبناء الدولة الحديثة المستقلة. وربما يقود ذلك الأمة، أو بعضها، إلى شكل من أشكال الاتحادات، أو التجمعات، السياسية والاقتصادية، في ظل عولمة سريعة الانتشار، ليس من مصلحة دولها البقاء خارج نطاقها وتأثير تبادليتها.
إن أي مجتمع بدون فلسفة من لدنه مثل عربة بلا حصان، وحركة المجاميع فيه بدون عقل فلسفي مثل سفينة في يم بدون بوصلة. وتسير الفلسفة على جادة الصواب عندما يصبح نقادها أكثر من شراحها، ويصير نقدها من خارجها موضوعياً ومثمراً أكثر من نقدها من داخلها، وفائدته لها أكبر وأهم في سيرورة تطورها. الفلسفة ينتجها العقل الفلسفي وليس حركة المجاميع، والوعي الجمعي يعيد تشكيل المجاميع وينظم حركتها. وحركة المجاميع ليست غاية في ذاتها إنما هي وسيلة العقل الفلسفي لتحريك المجتمع في صيرورة التطور. والعقول الفلسفية كالجذور والجذوع والغصون طالما تتفاعل مع نسغ الحياة لا تتخشب ولا يأكلها السوس. عند هذا الفهم والفعل يمكن القول أن الأمة بدأت تخطو خطواتها الأولى في سيرورة الخروج من حالة اجترار الفكر إلى صناعته بما يسمح، في المحصلة، بتجاوز وضعية الاستعصاء الحضاري التاريخي، وبدء مرحلة حياة جديدة تفيض بالدينامية والحيوية.
*كاتب وأكاديمي سوري