خالد القشطيني
لست ممن يعرفون الكثير عن إيران. ولكن بالنسبة للشعوب العربية والإسلامية عموماً، فلا أعتقد أن أحداً وصل بالموت والحداد والجنائزيات والمآتم ذلك المستوى العالمي من الفن في هذه الشؤون وتولعوا به كالعراقيين. يكفي قضاء ساعة واحدة في مأتم من مآتم عزاء الحسين ليتلمس المشاهد هذا المستوى العالي من الوله العراقي بالحزن. كانت والدتي رحمها الله، كلما شعرت بالضجر والقرف من الحياة، تضع العباءة على رأسها وتخرج قائلة: «أنا رايحة أدوّر على عزا. ما راح أتأخر. ساعة، ساعتين أبكي وأرجع».
زارتني قبل آونة إحدى الزميلات لتعبر عن عميق تقديرها لمقالاتي ثم أشارت بصورة خاصة إلى عظيم إعجابها بما كتبته من رثاء في حق أخي مظفر. من بين آلاف المقالات التي نشرتها في هذه الزاوية لم يضحكها شيء كما أضحكها ما ذكرته عن أخي مظفر! أمر غريب أن يصبح الرثاء والموت مصدراً للضحك. ولم يكن بشيء جديد. فقد لاحظ الزملاء في كل المراثي التي كتبتها من قبل عنصر الدعابة والنكتة كما فعلت في نعي صديقي المرحوم صلاح طعمة.
صادف أن استمعت في الوقت نفسه إلى أغنية حاتم العراقي التي يرثي بها أخاً فقده. وباستثناء محمد القبانجي في مقامه اللامي، لم أسمع أي مغنٍ عربي أجاد في رثاء عزيز عليه بالموسيقى والغناء كما فعل القبانجي ومن بعده حاتم العراقي في هذه الأغنية «نايم المدلول، إش حلوة نومته!» إذا كنت قد رثيت أخي بالضحك، فهذا المغني الريفي قد رثى أخاه بإيقاع راقص. يبدأ رثاءه الموسيقي بنواح ميلودرامائي، يتوسل فيه بالجناز أن يعطيه الجنازة ليحملها ويواريها التراب بيديه. يرثي حظه في أن أخاه قد سبقه إلى الموت وفوت عليه فرصة دفنه هو بيد أخيه الراحل. كلها تراجيديات متفاوتة، ولكن النحيب سرعان ما ينتهي ليفسح المجال لذلك النغم الراقص بإيقاعه الرهيب، والرهيب في بساطته:
نايم المدلول (المدلل) إش حلوة نومته
مسلهم عيون ناشر كذلته (جدائل شعره)
غزل عجيب بجمال جثة ميتة بوجه شقيق ميت! عندما استمعت لأول مرة هذه الأغنية تصورت أنها كانت مجرد غزل بحبيب. لم أحسب أنها كانت غزلاً بميت! آه ما أحلى نومته، نومة الموت! وبعد أن استمعت إلى بقية الأغاني في هذا الشريط، وكلها غزلية. أدركت أن العراقيين يجيدون الغزل والتغني بميت أكثر وأروع مما يجيدونه في الغزل بالأحياء. ولم لا؟ فكاتبهم الساخر أيضاً أجاد ظرفاً في الرثاء ومواضيع الحزن. أكثر مما أجاد في المزاح والدغدغة ومواضيع الهزل. هذا على الأقل ما سمعته من الزميلة الكاتبة. ولم يكن في ذلك شيء من جديد. فقبل خمسة آلاف سنة، كرس الشاعر البابلي أروع جزء من ملحمته عن كلكامش لموت أنكيدو ورثائه ووصف جنازته. ويفقد الملك رشده ويمرض ويجن ويبقى يبكي على جثة صديقه سبعة أيام بلياليها حتى يبدأ الدود يتساقط من أنفه ويتحول إلى تراب. وكأن الشاعر البابلي قد استبق بذلك الكلمات التي قرأتها على شاهد أحد القبور في بغداد: «يا دود، يا دود! كل لحمي وعظمي وخلي عيوني السود!».
زارتني قبل آونة إحدى الزميلات لتعبر عن عميق تقديرها لمقالاتي ثم أشارت بصورة خاصة إلى عظيم إعجابها بما كتبته من رثاء في حق أخي مظفر. من بين آلاف المقالات التي نشرتها في هذه الزاوية لم يضحكها شيء كما أضحكها ما ذكرته عن أخي مظفر! أمر غريب أن يصبح الرثاء والموت مصدراً للضحك. ولم يكن بشيء جديد. فقد لاحظ الزملاء في كل المراثي التي كتبتها من قبل عنصر الدعابة والنكتة كما فعلت في نعي صديقي المرحوم صلاح طعمة.
صادف أن استمعت في الوقت نفسه إلى أغنية حاتم العراقي التي يرثي بها أخاً فقده. وباستثناء محمد القبانجي في مقامه اللامي، لم أسمع أي مغنٍ عربي أجاد في رثاء عزيز عليه بالموسيقى والغناء كما فعل القبانجي ومن بعده حاتم العراقي في هذه الأغنية «نايم المدلول، إش حلوة نومته!» إذا كنت قد رثيت أخي بالضحك، فهذا المغني الريفي قد رثى أخاه بإيقاع راقص. يبدأ رثاءه الموسيقي بنواح ميلودرامائي، يتوسل فيه بالجناز أن يعطيه الجنازة ليحملها ويواريها التراب بيديه. يرثي حظه في أن أخاه قد سبقه إلى الموت وفوت عليه فرصة دفنه هو بيد أخيه الراحل. كلها تراجيديات متفاوتة، ولكن النحيب سرعان ما ينتهي ليفسح المجال لذلك النغم الراقص بإيقاعه الرهيب، والرهيب في بساطته:
نايم المدلول (المدلل) إش حلوة نومته
مسلهم عيون ناشر كذلته (جدائل شعره)
غزل عجيب بجمال جثة ميتة بوجه شقيق ميت! عندما استمعت لأول مرة هذه الأغنية تصورت أنها كانت مجرد غزل بحبيب. لم أحسب أنها كانت غزلاً بميت! آه ما أحلى نومته، نومة الموت! وبعد أن استمعت إلى بقية الأغاني في هذا الشريط، وكلها غزلية. أدركت أن العراقيين يجيدون الغزل والتغني بميت أكثر وأروع مما يجيدونه في الغزل بالأحياء. ولم لا؟ فكاتبهم الساخر أيضاً أجاد ظرفاً في الرثاء ومواضيع الحزن. أكثر مما أجاد في المزاح والدغدغة ومواضيع الهزل. هذا على الأقل ما سمعته من الزميلة الكاتبة. ولم يكن في ذلك شيء من جديد. فقبل خمسة آلاف سنة، كرس الشاعر البابلي أروع جزء من ملحمته عن كلكامش لموت أنكيدو ورثائه ووصف جنازته. ويفقد الملك رشده ويمرض ويجن ويبقى يبكي على جثة صديقه سبعة أيام بلياليها حتى يبدأ الدود يتساقط من أنفه ويتحول إلى تراب. وكأن الشاعر البابلي قد استبق بذلك الكلمات التي قرأتها على شاهد أحد القبور في بغداد: «يا دود، يا دود! كل لحمي وعظمي وخلي عيوني السود!».