*د.السيد محمد علي الحسيني
إن عملية صناعة التاريخ لها وجهان مختلفان من کل النواحي، وجه سلبي يحفل بالحروب والمآسي والدمار والتناحر والكراهية والأحقاد بين الشعوب والأمم والأديان، ووجه إيجابي يحفظ بين طياته البناء والإعمار والتواصل بين الشعوب والأديان والحضارات والتسامح والتعايش السلمي، ولاريب لابد من الإقرار بأنه ولأسباب متباينة فقد کانت فترات الحروب والدمار والأحقاد والكراهية تشکل أكثرية الحقب التاريخية الماضية وبقدر ما کان يحتاج خوض الحروب إلى الشجاعة والحزم والاقتدار، فإن التأسيس للسلام والأمن والتسامح والتعايش والتواصل بين الشعوب والأديان أيضا کان بحاجة إلى شجاعة وحزم واقتدار أکبر وأعمق من الذي يحتاجه المرء لخوض الحروب، وإن التاريخ يذکر بأحرف من نور أولئك الذين جعلوا جل همهم البناء والإعمار والتأسيس للتواصل والتعايش والتآلف والمحبة بين الشعوب، ولاغرو من أن البشرية تذکر بإجلال هذا الصنف وتشيد به، لأنه أسس لتراث وإرث، الإنسانية بأمس الحاجة إليه، وإننا إذ نعاصر العقد الثاني من القرن ال21، فإنه لا مناص من الاعتراف بأن الإنسانية بحاجة إلى المزيد من الشجعان الذين يؤسسون للتواصل والتعايش السلمي بين الشعوب والأديان والحضارات ويعملون على جعلها أمرا واقعا يقطع الطريق على ما يضدها.
الحضارات تبنى بالأفكار والقيم والمبادئ الإنسانية
إن من المهم جدا أن نعرف بأن صناعة التاريخ لاترتبط فقط بالأباطرة والدول والحضارات الکبرى مع الأخذ بعين الإعتبار دورها وتأثيرها بهذا الصدد، بل إنها تکون حتى من دول تبدو صغيرة في حجمها، لکنها کبيرة جدا بما يحمله قادتها من أفکار وقيم ومبادئ إنسانية تٶسس للتسامح والتقارب بين الشعوب والأديان وتسعى أيضا من نبذ أو إقصاء أو تهميش کل الأفکار والأمور التي تدعو إلى الکراهية والأحقاد والبغضاء والانعزال ونبذ ورفض الآخر، وإن رجلا کالمغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، نموذج سيخلده التاريخ ويذکره بکل خير لما أسس له في دولة الإمارات العربية المتحدة من مسار إنساني نبيل وسام بالتأسيس للتسامح والتآزر والتقارب والتعايش بين الأديان ونبذ الاخلاف والکراهية والأحقاد، مع وجوب الإشارة إلى ملاحظة مهمة بهذا الصدد وهو أن الراحل الکبير لم يعلم شعبه الکريم فقط وإنما الإنسانية جمعاء بأن الأصل في التاريخ الإنساني هو التسامح والتقارب والمحبة والتواصل والتعايش السلمي بين الأديان والشعوب.
الإمارات تٶسس لعصر تواصل الأديان وتوحيد الرسالات السماوية باتجاه التقارب الذي ينهي کل عهود الانعزال والاختلاف
إن الذي يثلج الصدر أن سمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان وولي عهده الأمين الشيخ محمد بن زايد، لم يسيرا على النهج والطريق الذي اختطه والدهما فحسب وإنما عملا ما بوسعهما من أجل إغناء وإثراء هذا النهج وجعل دولة الإمارات منارا للتلاقي والتسامح والتعايش السلمي بين الأديان وإن ماقد شهده هذا العام 2019، من عمل وجهد بهذا المسار قد أکد ذلك بکل وضوح.
إن العام 2019، الذي جعلته دولة الإمارات عاما للتسامح وتم خلاله عقد مٶتمر عالمي کبير للتسامح شارك فيه علماء دين کبار ومفکرون من الأديان السماوية الثلاثة ومن مختلف أرجاء العالم وتم التوقيع على ميثاق الأخوة الإنسانية بمشاركة وحضور بابا الفاتيکان في أبوظبي، وهذه التطورات النوعية کانت بمثابة رسالات عملية وواقعية تبعث بها دولة الإمارات لبلدان العالم وللضمير الإنساني، حيث تٶکد على أنها تعني فعلا ماهي بصدده وأنها تؤسس حقا لعصر تواصل الأديان وتوحيد الرسالات السماوية باتجاه التقارب الذي ينهي کل عهود الانعزال والاختلاف والمواجهة إلى غير رجعة.
بيت العائلة الإبراهيمية ثمرة الجهود الإماراتية في اتجاه تعزيز قيم التسامح والسلم بين الأديان
إن مجمع الأديان الذي يطلق عليه “بيت العائلة الإبراهيمية” في أبوظبي سيقام فيه معبد يهودي ومسجد إسلامي وكنيسة مسيحية، يأتي هو الآخر کجهد عملي يثبت للعالم بأن الإمارات قد عملت ما بوسعها على تعزيز قيم التسامح والسلم لجعل التقارب بين الأديان أمرا واقعا إلى الدرجة التي سوف يکون من الصعب على کل من قد يحمل أفكارا دينية انعزالية أن يؤسس لأفكار ومبادئ تناقض، هذا الاتجاه النير الذي هو أصل وأساس الإنسانية والمقصد الأساسي الذي عناه الله تعالى في الأديان الإبراهيمية.
ما جاء في الأديان الإبراهيمية من نصوص تٶکد على وحدانية الله تعالى وتعترف بربوبيته، تثبت بأن أصلها واحد ومن مصدر واحد، إذ لو طالعنا بعض النصوص من التوراة (العهد القديم)، نجد إثباتا لذلك؛ إذ جاء في التوراة:” اسمع يا إسرائيل الرب الهنا رب واحد”(التثنية 6. 4) و”ليس إله إلا أنت المعتني بالجميع”(حكمة سليمان 13:12) “وصلى حزقيا أمام الرب وقال أيها الرب إله إسرائيل الجالس فوق الكروبيم أنت هو الإله وحدك لكل ممالك الأرض أنت صنعت السماء والأرض”(الملوك الثاني 19: 15)، و”الآن أيها الرب إلهنا خلصنا من يده فتعلم ممالك الأرض كلها إنك أنت الرب الإله وحدك”(الملوك الثاني 19: 19).
أما في الانجيل فقد جاءت أيضا نصوص بنفس المعنى ومنها على سبيل المثال لا الحصر:” لأن الله واحد هو الذي سيبرر الختان بالإيمان والغرلة بالإيمان”(رومية 3: 30)، “فقال له الكاتب جيدا يا معلم بالحق قلت لأنه الله واحد وليس آخر سواه” (مرقس 12: 32)، و”من لا يخافك يا رب ويمجد اسمك لأنك وحدك قدوس لأن جميع الأمم سيأتون ويسجدون أمامك لأن أحكامك قد أظهرت”(الرؤيا 15: 4). أما في الإسلام فإنه وعلى سبيل المثال أيضا:”يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِى خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍۢ وحدة ” وفي آية أخرى:” قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا”. آل عمران (64)
“إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا والنصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِند رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ “البقرة:(62).
و”هو الحي لا إله إلا هو فادعوه مخلصين له الدين”(غافر: 65).
من هنا فإن الدعوة للتسامح والتواصل والتقارب بين الأديان التي انطلقت من دولة الإمارات، فإنها لم تنطلق من فراغ وإنما من الأساس الذي انطلقت منه الأديان السماوية الثلاثة وأجمعت عليه ولاريب من أن هذه البداية الجديدة القويمة ستکون لها استمرارية حميدة بإذن الله من جانب القيادة الرشيدة لدولة الإمارات وعلماء الدين الأكارم فيها وأقرانهم من الذين سيجعلون من هذا المسار نبعا رقراقا للإنسانية جمعاء.
*الأمين العام للمجلس الإسلامي العربي في لبنان