أقلام يورابيا

ماذا لوسقط النظام في لبنان؟ نصر إيراني وخسارة عربية

*د.السيد محمد علي الحسيني.

مراحل كثيرة مرت بها المجتمعات الإنسانية في عملية البحث عن أنظمة حكم تكفل لها العيش بكرامة وفي اطمئنان وسلام، خاصة في ظل النزاعات القبلية والصراعات والفوضى والحروب والأنظمة الاستبدادية والإقطاعية والامبراطوريات البائدة التي حرمت العباد من لقمة العيش وجعلت منهم عبيدا يباعون ويشترون، الأمر الذي دفع بالشعوب إلى التحرك لإحداث تغيير جذري في تلك الأنظمة، عبر ثورات وانتفاضات لقلب تلك الأنظمة وتأسيس أنظمة بديلة، تكون في مستوى طموح المجتمعات لتحقيق مطالبهم وتأمينها لهم عبر عقد اجتماعي بين الحاكم والمحكوم يتولى فيها الحاكم إدارة شؤون البلاد عبر مجموعة من القوانين التي يتم سنها عبر ممثلين للشعب يتم الاتفاق عليها ويحترمها الجميع في إطار دولة القانون ودولة المؤسسات لتحقيق المساواة والعدالة الاجتماعية.
وفي خضم الأحداث الساخنة التي يعيشها الشارع اللبناني من أزمة اقتصادية طفت إلى السطح، بات من غير الممكن دسها في التراب، فاللبنانيون لم يعودوا قادرين على تحمل صعوبة المعيشة وغلائها وانعدام الضمان الصحي وانتشار البطالة وتفشي الجريمة بشكل ملفت في ظل فساد مستشر، أسبابه متعددة، الأمر الذي دفع إلى انطلاق الحراك في 17 من شهر أكتوبر، حراك هو الأول من نوعه في تاريخ الدولة اللبنانية، لأنه نزع لباس الطائفية وتعدى الحدود المناطقية وخرج بصوت واحد ومطالب مشتركة لمعاناة كل المواطنين، حراك يطمح فيه محركوه أن يؤسسوا مرحلة جديدة ونظاما جديدا، قائما على أسس ومقومات متينة، يتم فيها وضع دستور جديد يؤسس مؤسسات تحارب الفساد وتشكل ضمانا لحماية الحقوق وتحقيق العدالة الاجتماعية المفقودة.

اتفاق الطائف طوى صفحة الحرب الأهلية.. وإسقاطه حلم إيراني

لبنان الذي يشهد هذه الأيام حراكا شعبيا سلميا ضد الفساد، عاش محطات تاريخية صعبة، وأصعبها الحرب الأهلية التي انفجرت عام 1975 وانتهت سنة 1990 متسببة في دمار كبير خسر فيها لبنان الكثير من الضحايا، تشير التقارير إلى مقتل 120ألف ، إضافة إلى تشرد ما يقارب 76 ألف لبناني، أعداد أثارت حالة من الخوف والهلع في بلد لا تتعدى مساحته 10,452 كم²، حرب أخذت لبنان إلى وضع مزر، قسمت أهل البلد الواحد وأدت إلى كسر الثقة بينهم، لن ندخل في تفاصيل الحرب والأطراف المتقاتلة، لكن الأهم كيف انتهت هذه الحرب الدموية.
15 سنة من الحرب الأهلية أضعفت كاهل الشعب اللبناني، وأرقت الدول العربية من ذلك الوضع، ما دفعها إلى ضرورة التدخل لإنهائها عبر اتفاق يرضي الأطراف المتقاتلة، وفعلا أتى اتفاق الطائف عام 1989 أوما يعرف بوثيقة الوفاق الوطني اللبناني الذي خطت بنوده في المملكة العربية السعودية سعيا منها لإحلال السلم والأمن في لبنان، الذي أكد السلطة اللبنانية في جنوب لبنان (التي كانت تحتلها إسرائيل)، وحدد إطارا زمنيا للانسحاب السوري، لينهي سنوات الدم في لبنان ويفتح صفحة أمل للبنانيين، وفعلا قامت جامعة الدول العربية بتعيين لجنة مهمتها صياغة حلول للنزاع، وتفعيلا لهذا الاتفاق قام البرلمان بسن قانون في مارس عام 1991، للعفو عن جميع الجرائم السياسية قبل سنة، وبعد شهرين تم حل الميليشيات، باستثناء ميليشا حزب الله التي كانت تتجهز لخوض دورها المشبوه، وبداية العمل الممنهج في ظروف كانت مناسبة جيدا لانطلاق مشروعها، فرب ضارة نافعة، فهذه الميليشا عرفت تماما كيف تقتات على بقايا الحرب الأهلية للتغول والسيطرة على لبنان في الوقت المناسب.
من المعروف أن اتفاق الطائف أسس لميثاق وطني وسياسي جديد في لبنان تم اتفاق كل الأطياف والأحزاب على أساسه وانطلق لبنان في مرحلة جديدة، ليأتي الرئيس الشهيد رفيق الحريري عام١٩٩٢ كمنقذ للاقتصاد اللبناني، بنى أرضية قوية تستقطب كل العالم ، وحرك عجلة الاقتصاد واليد العاملة لينتعش الوضع الاقتصادي وتتحسن الأوضاع المعيشية بشكل ملفت.
هذا الانتعاش لم يكن مرغوبا فيه من حزب الله لأنه حجرة العثرة في وجه مشاريع إيران وليست البيئة المناسبة لتنمو فيها خلايا حزب الله، فبدأ المخطط بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005 والعمل على إنهاء اتفاق الطائف ومنذ ذلك الحين اتضح ذلك جليا خلال الحراك الأخير الذي فضحهم وكشف كل الأقنعة.

بين بقاء الحكومة أوإسقاطها خيط رفيع يتحكم فيه اللاعب الإيراني..وعودة العرب وحده يكسر قواعد اللعبة الإيرانية

من الوهلة الأولى من انطلاق الحراك الخميس 17 أكتوبر، أعلنا عن احتمال سقوط الحكومة خلال الساعات الأولى لما نمتلك من معطيات دقيقة حول ما حدث، خاصة في ظل غليان الشارع اللبناني في كل المناطق ولدى كل الطوائف، ولكن بعد أيام قليلة من الحراك الذي شهد حضورا شيعيا ملفتا كشر حسن نصر الله عن أنيابه وبدأ يرمي تهديدات من هنا وهناك ويتحدث عن سيناريوهات يخوف بها المتظاهرين، وبدأ يوجه موضوع الحراك نحو خانة المؤامرة، وعندما بدأ الشارع اللبناني يلتقي وطنيا بأعلامه الموحدة بعيدا عن الطائفية، حينها بدأت نوبة الهيستيريا لدى حزب الله فأرهب الشارع بأسلوب المافيات وكانت الأمور ستتجه إلى الصدام لولا التدخل الشجاع لقوى الأمن الداخلي وللجيش اللبناني الذين أثبتا وطنيتهما وحرصهما للدفاع عن وحدة اللبنانيين وأمنهم، إن حزب الله أراد أن يوهم الجميع بأنه مع بقاء الحكومة الحالية، لكنه في الحقيقة يرغب بشكل كبير في سقوطها ليتحرك ويدفع الأطراف السياسية الحليفة إلى إعادة تشكيل نظام سياسي جديد يهدم اتفاق الطائف الذي أعطى صلاحيات واسعة لرئيس الوزراء، وهذا يعني إنهاء الدور العربي وهيمنة المخطط الإيراني بلا منازع، في ظل المناخ الإقليمي لصالح محور ايران، لذلك لابد من قراءة الوضع الراهن في لبنان بشكل جدي وضرورة عودة الدور العربي من جديد لكسر قواعد اللعبة الإيرانية وتبديد أحلامها في الهيمنة المطلقة على لبنان وأي تفكير بالسماح بإسقاط الطائف في هذه المرحلة بالذات والذهاب إلى مؤتمر وطني تأسيسي هو انتحار ونصر ايراني وخسارة لبنانية وعربية.

*أمين عام المجلس الاسلامي العربي في لبنان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق