كيرلس عبد الملاك
لا شك في أن قضية اختفاء الكاتب الصحفي السعودي جمال خاشقجي مازالت تحمل الكثير من الغموض ومن غير المنطق أن ننساق وراء التصورات الشائعة في الوقت الراهن لكي نبني تخيل يناسب اعتقاداتنا طالما لم تُكشف الأدلة الحاسمة بعد، فنحن مازالنا أمام قضية اختفاء استغلتها بعض الجهات للانتقام من طرف بعينه قبل ظهور ما يحسم القضية بشكل كامل وشامل.
سفك دماء شخص داخل قنصلية بلاده يعد جريمة كبرى، لا يستساغ معها إلقاء الاتهامات الجزافية قبل التحقق من أدلتها تماما، ومع ذلك لا يمكننا تجاهل المؤشرات التي تؤدي بنا إلى ترجيح كفة القضية نحو اتجاه ما، فالرجل قد دخل القنصلية السعودية في تركيا التي على الرغم من وجود رصدا مصورا لدخوله إليها لا يوجد ما يؤكد مغادرته لها، وهذا يلقي على القنصلية السعودية التزاما أخلاقيا بتقديم تفسير موثق شفاف أمام الرأي العام العالمي لما حدث للرجل داخلها.
ولعل استباق نتيجة التحقيقات من جانب أعداد كبيرة من المتابعين يرجع إلى الأساليب التي تم التعامل بها من قبل جميع الأطراف المتداخلة في القضية، فمن الجانب السعودي يجري تكتم مثير للاستفهام حول تفاصيل القضية مازال مستمرا إلى وقت كتابة هذه السطور برغم استطاعة القنصلية السعودية الكشف عن تسجيلات صوتية أو مصورة تنفي التهمة عنها، ومن الجانب التركي وُجهت إشارات حذرة إلى اختفاء الرجل داخل القنصلية السعودية فضلا عن توجيه اتهامات بالقتل إلى الجانب السعودي من بعض صحف تركية استغلتها قنوات قطرية في كيل الاتهامات للمملكة السعودية، ومن الجانب الأمريكي صدرت تصريحات متضاربة بعضها يرجح حدوث جريمة داخل القنصلية السعودية وبعضها يتنصل من معرفة تفاصيل القضية.
لابد أن ننحي العواطف جانبا حينما نناقش مثل هذه القضايا، لأن أضرار إخفاء الحقيقة أكثر خطورة من أضرار إعلانها، حيث إن نتائج مرورها مرور الكرام يفتح الباب أمام تكرارها مع ضياع تفاصيلها وصمت الجميع عن المطالبة بمعرفة خفاياها.
جمال خاشقجي كاتب صحفي سعودي له أفكاره الداعمة لجماعات الإسلام السياسي المتشددة، وبحسب ما نُشر عنه فإن له علاقة قديمة بتنظيم القاعدة وقد نُشرت له صورة فوتوغرافية قديمة وهو يحمل سلاحا وإلى جواره يقف بعض المتطرفين حينما كان الجهاد المسلح عنوان التدين الإسلامي لدى الساسة العرب لكن هذا لا يبرر قتله في قنصلية بلاده خاصة وأنه دخل إليها مسالما متسلحا بالقلم ولا يخفى على أحد أن المملكة السعودية كانت قد دعمت تنظيم القاعدة في يوم من الأيام، فإذا تأكد حدوث القتل بالفعل داخل القنصلية نكون أمام كارثة سياسية وأخلاقية غير مسبوقة.
من الخطير أن يفقد الإنسان حياته في مؤسسة رسمية تنتمي إلى موطنه لأنه اختلف في الرأي مع السلطة الحاكمة، بغض النظر عن توجهاته الشخصية أو السياسية، فالقضية لا تتعلق بالشخص بقدر ما تتعلق بدلالة الحادث الذي “إذا تأكد السيناريو الشائع له” فهو يحمل تهديد لمستقبل حقوق الإنسان وحرية الرأي في المنطقة العربية، الأجدر بالسلطة بشكل عام أن تسعى لإجراء محاكمة عادلة لا أن تدخل أياديها في نفق مخضب بالدماء دعما لرأيها وسياستها.
هناك عدد كبير من حوادث الاختفاء التي طالت مواطنين بالدول العربية ومنها ما ذهب طي النسيان ولم تكشف حقيقته إلى يومنا هذا ولم نجد من يلح على إظهارها مثلما حصل تجاه هذا الحادث، لذا فإن الكثيرون تساءلوا مستنكرين: لماذا تحديدا ثار العالم لاختفاء خاشقجي دون المختفين الآخرين؟ في ظني فإن السبب يرجع إلى أن المفقود كاتب في صحيفة أمريكية شهيرة وهي واشنطن بوست ولأن الحادث ارتبط بشكل وثيق بالقنصلية السعودية التي هي قنصلية بلاده كما أنه يعد معارض للحكم السعودي الحالي، فضلا عن تأكيدات الجانب التركي لاختفاءه داخل القنصلية.
أي متابع منصف لقضية جمال خاشقجي سوف يلاحظ الاستغلال التركي القطري للحادث، برغم ما تلاقيه المعارضة في تركيا من رفض يصل إلى حد الاعتقال مع غياب الديمقراطية تماما عن الساحة القطرية، لكن هذا لا يعني بأي حال من الأحوال التغاضي عن مصير الرجل المختفي نكاية في السلطتين التركية والقطرية، فالقضية إنسانية بالدرجة الأولى، يُخشى أن تتكرر دون رادع أو أن تفتح الباب أمام قضايا مشابهة حينها سيكون الكل خاسر، وهذا لا يستبعد احتمالات ضلوع أطراف غير سعودية في هذا الحادث.
ليس أمامنا إلا أن ننتظر نتيجة التحقيقات بما تحمله من دلائل وبراهين دامغة حتى نستطيع أن نكوّن رؤية شاملة مستنيرة عن القضية، مع تمنياتي بعدم التلاعب بهذه النتيجة لصالح أطراف بعينها بهدف حماية المصالح الدولية المشتركة ففي كثير من الأحيان يكون رأس المال هو المحرك الأكبر لقضايا حرية الرأي وحقوق الإنسان.