السلايدر الرئيسيشمال أفريقيا

الحكم المحلي في تونس انهاك لمؤسسات الدولة وإضعاف للسلطة

– تونس – الحكم المحلي أو الديمقراطية المحلية، أو اللامركزية كلها مصطلحات من نوع الشعارات التي ترددت كثيرا بعد الثورة التونسية. وهي شعارات أو مطالب مشروعة نظريا، باعتبار ما عاشته تونس من مركزية مفرطة أدت إلى تركيز كل الحكومات المتعاقبة منذ الاستقلال على جهات بعينها، وإهمال دواخل البلاد وتهميشها. هذا الإهمال أدى إلى بروز ما عُرف كثيرا بالتهميش وكان أحد عناوين أو دوافع اندلاع ثورة 17 ديسمبر 2010. ولذلك كان التشديد على ضرورة رفع التهميش والتمييز الإيجابي وإرساء ديمقراطية القُرب بمثابة حلول وتصورات أجمعت عليها كل القوى السياسية التي تصدرت المشهد بعد الثورة.

الانتخابات البلدية التي أجريت في تونس في 6 مايو 2018، كانت أحد الاستحقاقات السياسية المهمة التي جرت في زمن الثورة، وكان هدفها العام تكريس الحكم المحلي باعتباره خطوة في طريق الانتقال الديمقراطي في البلاد. لكن لم يتصور التونسيون (إلا قلة من النخب السياسية والثقافية وفعاليات المجتمع المدني)، أن للحكم المحلي ولديمقراطية القرب كلفة عالية لا تتناسب إطلاقا مع الوضع الاقتصادي الذي تمر به البلاد، ولم تجد له الحكومات المتعاقبة حلا مجديا هذا إن لم تساهم في تعميقه.

الحديث عن كلفة الحكم المحلي لا يعني رفض الفكرة من أساسها، بل يعني أنه كان بالإمكتن تأجيل تنفيذها إلى حين تحسن أوضاع البلاد، أو التهيؤ لها باستحداث تشريعات تقلل من كلفتها أو على الأقل الاستعداد مسبقا لما يمكن أن يترتب عن الشروع في الحكم المحلي بما يعنيه من مؤسسات واعتمادات وميزانيات ومصاريف. وبمجرد شروع الحكومة في شهر سبتمبر الماضي في وضع الأوامر الترتيبية لرواتب ومنح وامتيازات رؤساء البلديات، تفطن الرأي العام إلى حقيقة أن البلاد مقدمة على تكبد مصاريف خيالية، مقابل السيارات الوظيفية وحصص الوقود والمساكن الوظيفية ومصاريف الاتصالات الهاتفية وغيرها في حين أن الوضع المالي الراهن لا يسمح بذلك.

وبجانب الصعوبات في توفير تكلفة وموازنات الحكم المحلي والدوائر البلدية وتلبية طلبات رؤسائها برزت على أرض الواقع صعوبات أخرى تتعلق أولا بالقوانين التي تنظم الحكم المحلي والواردة في مجلة الجماعات المحلية المصادق عليها منذ أشهر وصعوبات أخرى تتعلق بكيفية إدارة هذا الحك في إطار شفاف يعلي مصلحة المواطن والدولة على بقية المصالح الضيقة.

وفي هذا السياق يقول محمد معالي، مستشار بلدي سابق وصحافي ناشط في المجتمع المدني لـ””: “نصت مجلة الجماعات المحلية الجديدة على وجوب تفرّغ رؤساء المجالس المحلية، أي رؤساء البلديات، للعمل البلدي وعدم ممارسة أي نشاط مهني آخر مقابل “مِنَحٍ… تُحدّد معاييرها وتضبط مقاديرها بأمر حكومي”.

وشكّل هذا الفصل السادس من هذا القانون منعرجا حقيقيا في وضع رئيس البلدية الذي تحوّل، إلى شبه موظف حكومي مأجور، بعد أن كان في السابق يُؤدّي عملا تطوّعيّا، مثل بقية أعضاء المجلس البلدي الذين لم يطرأ على وضعهم تغيير يُذكر عدا ما جاء في هذا الفصل نفسه: “يمارس أعضاء المجالس المحلية مهامهم دون مقابل. وتسند لنواب الرئيس ومساعديه منح بعنوان استرجاع مصاريف.”، بحسب معالي.

وقد أثار هذا التحوّل في وضع رئيس البلدية ردود فعل يغلب عليها الرفض والاستهجان، إذ رأى كثيرون أن هذا يُثقل كاهل الجماعات المحلية التي تشكو ميزانيات تعاني عجزا مُزمنا، ويوضح “هذا ما أعرفه جيدا بحكم انتمائي إلى واحدة مما عُرف بتسمية “اللجان الخصوصية” التي تولت تسيير البلديات في الفترة الانتقالية الممتدة من بُعيد الثورة حتى قُبيل الانتخابات البلدية الأخيرة”، مضيفا “أن مهمة رئيس البلدية، ليست عملا إداريا لأن هذا من مهام الكاتب العام للبلدية والموظفين الإداريين ولا هو مكلف بجمع النفايات وتنظيف شوارع المدينة كما يسعى للتظاهر به بعض الشعبويين، فهذا من اختصاص عمال النظافة. بل إن المطلوب من رئيس البلدية، ومن رؤساء الدوائر البلدية أيضا، هو الإصغاء إلى مشاغل المواطنين واقتراحاتهم والسعي إلى الاستجابة لها ما أمكن بتضمينها في الخطط والمشاريع البلدية، وهذا لا يمكن أن يكون على أية حال عمل موظفين بل عملا سياسيا أساسا”.

ويذهب الخبير الاعلامي والأستاذ الجامعي محمد الفهري شلبي إلى عمق قضية الحكم المحلي معتبرا أن الوضع الراهن في تونس لا يسمح بإرساء نظام الحكم المحلي بما يعنيه من ممارسة للسلطة والديمقراطية محليا طالما أن أسس السلطة المركزية مازالت غير ثابتة. وقال شلبي في تصريح خاص لـ””: “الشعب التونسي ليس مهيئا الآن للحكم المحلي، لأن الوصول إلى ديمقراطية محلية يقتضي أولا وجود ديمقراطية مركزية وهو بعد غائب الآن في ظل الفوضى التي يشهدها الوضع السياسي حاليا”.

وأوضح الأستاذ الجامعي أن إرساء الحكم المحلي الآن في تونس يعد مخاطرة، لأن القانون الذي ينظم هذا الحكم يعد متسرعا حيث تم إعداده في مدة قصيرة ودون الأخذ بعين الاعتبار الاستعدادات المسبقة اللازمة لاعتماد الحكم المحلي، من ناحية الميزانية وتوفير وسائل ومرافق العمل للبلديات خاصة مع الترفيع في مجموع عدد البلديات بحوالي 150 بلدية جديدة، معظمها لم تتوفر لها حتى مقرات لإقامة المؤسسة البلدية وبعضها عجز عن القيام بمهامه اليومية من تنظيف وغيرها.

واستشهد شلبي بالفيضانات الأخيرة التي شهدتها ولاية نابل والتي كشفت نقصا فادحا في تجهيزات ووسائل العمل التي كان من المفترض أن تكون بحوزة البلدية لتستطيع مجابهة الوضع وتقوم بدورها في خدمة المواطن. واعتبر أن غالبية رؤساء البلديات التي تعلقت بهم مشكلات من قبيل المطلبية دون مراعاة للوضع الاقتصادي الهش في البلاد وحاجة الدوائر المحلية إلى الانتفاع بالموارد المالية المرصودة إليها من خزينة الدولة،هم تابعين لحركة النهضة ومن بينهم رئيسة بلدية تونس سعاد عبد الرحيم التي طالبت بأن تحظى بامتيازات وراتب كاتب دولة. وكذلك رئيس بلدية صفاقس الذي اعتبر اقتناء سيارة فاخرة من بين أولوياته كرئيس. وكذلك رئيس بلدية حلق الوادي الذي رفض تسجيل عقد قران لتونسية بأجنبي في دفاتر الحالة المدنية بالبلدية لأنه يعتبر هذا الزواج محرما شرعا…

وأكد شلبي أن إرساء الحكم المحلي كممارسة ديمقراطية يجب مواكبته على المستوى الإقليمي بحيث يتم وضع دوائر محاسبة تتابع وتراقب التصرف المالي وتدقق في حسابات المجلس البلدي، وهو ما يحيلنا مجددا على قوانين مجلة الجماعات المحلية التي تتيح لرؤساء البلديات نفوذا يتجاوز مستوى عملهم ودورهم الأصلي، ومن بين هذه القوانين الفصل الذي يخول لرؤساء البلديات إبرام اتفاقيات مع جهات خارجية وبالرغم من التنصيص على أن هذه الاتفاقيات تتم تحت إشراف وزارة الخارجية إلا أن شلبي يعتبر هذا الفصل دليلا على إطلاق أيادي رؤساء البلديات في التصرف.

وانتقد الاستاذ الجامعي هذا الفصل معتبرا أنه مؤشر على مساع خفية لتفتيت الدولة وتشتيت الحكم وهو ما جعل البعض يرى أن في ذلك تنصلا من قبل السلطة المركزية من مسؤولياتها برميها على عاتق السلط المحلية. وخلص شلبي إلى أنه لا توجد مؤشرات مطمئنة على حسن سير نظام الحكم المحلي وأنه كان لا بد من التريث قبل سن قانون الجماعات المحلية وقبل تسليم السلطة للدوائر المحلية في ظرف يتسم بضعف وانحلال للدولة والسلطة المركزية إذ كان لا بد من دعم وتقوية السلطة المركزية ومن إعداد المواطنين وتثقيفهم حول الحكم المحلي ثم مده بسبل ووسائل العمل وحينها يمكن تسليم السلطة المحلية مع الحرص على مواكبتها ومراقبتها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق